المعاني إن القرآن إنما نزل بلغة العرب فيجب أن يخاطبوا بحسب ما هو مركوز في خزانة خيالهم، ولا ريب أن جل هممهم مصروفة بشأن الإبل فمنها يأكلون ويشربون، ومن أصوافها وأوبارها ينتفعون، وعليها في متاجرهم ومسافراتهم يحملون، فحيث أراد الله سبحانه أن ينصب لهم دليلا من مصنوعاته يمكنهم أن يستدلوا به على كمال حكمة الصانع ونهاية قدرته لم يكن شيء أحضر صورة في متخيلهم من الإبل فنصبها لهم. ولا ريب أنها من أعاجيب مصنوعات الله تعالى صورة وسيرة لما ركب فيها من التحمل على دوام السير مع كثرة الأثقال، ومن البروك حتى تحمل، ثم النهوض بما حملت، ومن الصبر على العطش، وعلى العلف القليل أياما، ثم شرب الماء الكثير إذا وجدت، ومن تذللها لصبي أو ضعيف.
قال الإمام فخر الدين الرازي: كنت مع جماعة في مفازة فضللنا الطريق فقدّموا جملا وتبعوه وكان ذلك الجمل يمشي ينعطف من تل إلى تل ومن جانب إلى جانب حتى وصل الطريق فتعجبنا من قوّة تخيله. وعن بعض أهل الفراسة أنه حدّث عن البعير وبديع خلقه في بروكه ثم نهوضه مثقلا وقد نشأ في بلاد لا إبل بها ففكر ثم قال: يوشك أن تكون طوال الأعناق، وذلك أن طول العنق يسهل عليه النهوض. ثم إن أصحاب المواشي لاحتياجهم الشديد إلى الماء المستعقب للكلأ صار جل نظرهم إلى السماء التي منها ينزل المطر، ثم إلى الجبال التي هي أقرب إلى السماء وأسرع لوقوع المطر عليها وحفظ الثلج الذي منه مادة العيون والآبار عند إقلاع الأمطار على أنها مأمنهم ومسكنهم في الأغلب.
لنا جبل يحتله من نجيره ... منيع يرد الطرف وهو كليل
ثم إلى الأرض التي فيها ينبت العشب وعليها متقلبهم ومرعاهم، فثبت أن الآية كيف وردت منظمة حسب ما انتظم في خزانة خيال العرب بحسب الأغلب. ومنها أن جميع المخلوقات متساوية في دلالة التوحيد وذكر جميعها غير ممكن فكل طائفة منها تخص بالذكر. ورد هذا السؤال فوجب الحكم بسقوطه، ولعل في ذكر هذه الأشياء التي لا تناسب في الظاهر تنبيها على أن هذا الوجه من الاستدلال غير مختص بنوع دون نوع بل هو عام في الكل. ومنها أن المراد بالإبل السحاب على طريق التشبيه والمجازفان العرب كثيرا تشبه السحاب بالإبل في أشعارهم. ومنها أن تخصيص الإنسان بالاستدلال منه على التوحيد يستتبّع الوقوع في الشهوة والفتنة، وكذا الفكر في البساتين النزهة والصور الحسنة فخص الإبل بالذكر لأن التفكير فيها متمحض لداعية الحكمة وليس للشهوة فيها نصيب، على أن إلف العرب بها أكثر كما مر، وكذا السماء والأرض والجبال دلائل الحدوث فيها ظاهرة وليس فيها نصيب للشهوة. والمراد بالنظر إلى هذه الأشياء هو النظر المؤدّي إلى الاستدلال