عديم النظير في فن من الفنون، فإنه لو سمع بنظير له في أقصى العالم ساءه ذلك وأحب موته، فإن الكمال محبوب لذاته وضد المحبوب مكروه. ومن جملة أنواع الكمال التفرد بالكمال لكن هذا يمتنع حصوله إلا لله تعالى، ومن طمع في المحال خاب وخسر.
وسابعها: شح النفس بالخير على عباد الله، فإنك تجد من لا يشتغل برياسة ولا تكبر ولا طلب مال إذا وصف عنده حسن حال عبد من عباد الله شق عليه ذلك، وإذا وصف اضطراب أمور الناس وإدبارهم فرح به، فهو أبدا يحب الإدبار لغيره ويبخل بنعمة الله على عباده كأنهم يأخذون ذلك من ملكه وخزائنه، وهذا ليس له سبب ظاهر سوى خبث النفس كما قيل: البخيل من بخل بمال غيره. وقد يجتمع بعض هذه الأسباب فيعظم الحسد ويتقوى بحسبه، وقلما يقع التحاسد إلا في الأمور الدنيوية، لأن الدنيا لا تفي بالمتزاحمين.
وأما الآخرة فلا ضيق فيها فلهذا لا يكون تحاسد بين أرباب الدين وأصحاب اليقين، وإنما يكونون بلقاء إخوانهم مستأنسين وببقاء أقرانهم فرحين وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ [الحجر: ٤٧] وأما علاج الحسد فأمران: العلم والعمل. أما العلم ففيه مقامان: إجمالي وهو أن يعلم أن الكل بقضاء الله وقدره، وأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، لا يرده كراهية كاره ولا يجره إرادة مريد. وتفصيلي وهو العلم بأن الحسد قذى في عين الإيمان حيث كره حكم الله وقسمته في عباده وغش للإخوان، وعذاب أليم، وحزن مقيم، ومورث للوسواس، ومكدر للحواس. ولا ضرر على المحسود في دنياه لأن النعمة لا تزول عنه بحسدك، ولا في دينه بل ينتفع به لأنه مظلوم من جهتك فيثيبه الله على ذلك. وقد ينتفع في دنياه أيضا من جهة أنك عدوه، ولا يزال يزيد غمومك وأحزانك إلى أن بقضي بك إلى الدنف والتلف.
اصبر على مضض الحسو ... دفإن صبرك قاتله
النار تأكل نفسها ... إن لم تجد ما تأكله
وقد يستدل بحسد الحاسد على كونه مخصوصا من الله تعالى بمزيد الفضائل.
لا مات أعداؤك بل خلدوا ... حتى يروا منك الذي يكمد
لا زلت محسودا على نعمة ... فإنما الكامل من يحسد
والحاسد مذموم بين الخلق، ملعون عند الخالق، مشكور عند إبليس وأصدقائه، مدحور عند الخالق وأوليائه، فهل هو إلا كمن رمى حجرا إلى عدو ليصيب به مقتله فلا يصيبه بل يرجع على حدقته اليمنى فيقلعها، فيزداد غضبه فيعود ثانيا فيرميه أشد من الأول