على الكفر، إلا مجيء الرسول ونظيره من كلام البشر أن يقول الفاسق لمن يعظه: لست بممتنع مما أنا فيه من الأفعال القبيحة حتى يرزقني الله الغنى، فلما رزقه الغنى ازداد فسقا، فيقول واعظه: لم تكن منفكا عن الفسق حتى توسر وما غمست رأسك في الفسق إلا بعد اليسار يذكره ما كان يقوله توبيخا وإلزاما لأن الذي وقع كان خلاف ما ادعى. وقيل: إن «حتى» للمبالغة فيؤل المعنى إلى قولك مثلا لم يكن الذين كفروا منفكين عن كفرهم وإن جاءتهم البينة. وقال قوم: إنا لا نحمل قوله مُنْفَكِّينَ على الكفر بل على كونهم منفكين عن ذكر محمد صلى الله عليه وسلم بالمناقب والفضائل، ثم لما جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم تفرقوا وقال كل واحد فيه قولا آخر رديئا، فتكون الآية كقوله وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ [البقرة: ٨٩] ولا يبعد في هذا الوجه أن يكون بعضهم قد قال في محمد قولا حسنا وآمن به لأن التفرق يحصل بأن لا يكون الجميع باقين على حالهم الأولى، فإذا صار بعضهم مؤمنا وبعضهم كافرا على اختلاف طرق الكفر حصل التفرقة. ولا يبعد أيضا أن يراد أنهم لم يكونوا منفكين عن اتفاق كلمتهم على كفرهم حتى جاءهم الرسول فحينئذ تفرقوا، وما بقوا على ذلك الائتلاف واضطربت أقوالهم. وفي قوله مُنْفَكِّينَ إشارة إلى هذا لأن انفكاك الشيء هو انفصاله عنه بعد التحامه والتئامه كالعظم إذا انفك عن مفصله، فالمعنى أن قلوبهم ما خلت عن تلك العقائد وعن الجزم بصحتها إلا بعد مبعث النبي صلى الله عليه وسلم. وقوله مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ بيان للذين كفروا، والمراد أن الكفار فريقان بعضهم أهل الكتاب ومن يجري مجراهم كالمجوس، وبعضهم مشركون وقيل: المشركون هم أهل الكتاب أيضا، وذلك أن النصارى هم أهل التثليث واليهود أهل التشبيه. وقد يقول القائل: جاءني العقلاء والظرفاء وأراد قوما بأعيانهم. وفائدة الواو أنهم جامعون بين الوصفين، ومما يؤيد هذا الوجه أنه لم يعد إلا ذكر أهل الكتاب في قوله وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ والأولون اعتذروا عن ذلك بأنهم إنما خصصوا بالذكر لفضلهم وبركة علمهم ولمزيد توبيخهم فإن العصيان والعناد من العالم أقبح، ولعل هذا هو السبب في تقديم ذكرهم أولا.
والبينة الحجة الواضحة، وإطلاقها على الرسول كإطلاق النور والسراج عليه. والصحف القراطيس التي يكتب فيها القرآن المطهر من النقائص ومس المحدث إياه، ومعنى تلاوة الصحف إملاؤه إياها. وعن جعفر الصادق رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ من الكتاب وإن كان لا يكتب ولعل هذا من معجزاته. والكتب المكتوبات. والقيمة المستقيمة أو المستقلة بالدلالة من قولهم «قام فلان بأمر كذا» . وقال أبو مسلم: البينة مطلق الرسل وهم الملائكة أي رسل من السماء يتلون عليهم صحفا كقوله يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ