قيل: إن الثاني بدل الكل من الأوّل فالأحسن أيضا وضع المظهر مقام المضمر كيلا يكون المقصود مفتقرا إلى ما ليس بمقصود في الظاهر مع رعاية فواصل الآي. وقيل: لا تكرار في السورة لأن المراد بالأوّل الأطفال ومعنى الربوبية يدل عليه لشدّة احتياجهم إلى التربية، وبالثاني الشبان ولفظ «الملك» المنبئ عن السياسة يدل عليه لمزيد افتقارهم إلى الزجر لقوّة دواعي الشهوة والغضب فيهم مع أن العقل الصادق لم يقو بعد ولم يستحكم، وبالثالث الشيوخ ولفظة «آله» المنبئ عن استحقاق العبادة له يدل عليه لفتور الدواعي المذكورة وقتئذ، فتتوجه النفس إلى تحصيل ما يزلفه إلى الله بتدارك ما فات. والمراد بالرابع الصالحون والأبرار فإن الشيطان مولع بإغوائهم. وبالخامس المفسدون والأشرار لأنه بيان الموسوس فإن الوسواس الخناس قد يكون من الجنة وقد يكون من الناس كما قال شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ [الأنعام: ١١٢] والخناس هو الذي من شأنه أن يخنس أي يتأخر وقد مر في قوله تعالى فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوارِ الْكُنَّسِ [التكوير: ١٥] عن سعيد بن جبير: إذا ذكر الإنسان ربه خنس الشيطان وولى، وإذا غفل وسوس إليه فكما أن شيطان الجن يوسوس تارة ويخنس أخرى فكذلك شيطان الإنس يرى نفسه كالناصح المشفق، فإن زجره السامع انخنس وترك الوسوسة، وإن تلقى كلامه بالقبول بالغ فيه حتى نال منه. وقال قوم: الناس الرابع يراد به الجن والإنس جميعا وهو اسم للقدر المشترك بين النوعين كما
روي أنه جاء نفر من الجن فقيل لهم: من أنتم؟ فقالوا: ناس من الجن.
وقد سماهم الله رجالا في قوله وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ [الجن: ٦] والناس الخامس هو المخصوص بالبشر، ومعنى الآية على هذا التقدير أن هذا الوسواس الخناس لا يقتصر على إضلال البشر ولكنه يوسوس للنوعين فيكون قوله مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ بيانا للناس. وفي هذا القول نوع ضعف لأنه يعد تسليم أن لفظ «الناس» يطلق على القدر المشترك يستلزم الاشتراك المخل بالفهم. وذكر صاحب الكشاف أنه إن جعل قوله مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ بيانا للناس فالأولى أن يقال: الناس محذوف اللام كقولك الداع والقاض. قال الله تعالى أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ [البقرة: ١٨٦] وحينئذ يكون تقسيمه إلى الجن والإنس صحيحا لأنهما النوعان اللذان ينسيان حق الله تعالى. وقيل مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ بدل من الْوَسْواسِ كأنه استعاذ بربه من ذلك الشيطان الواحد، ثم عمم فاستعاذ به من جميع الجنة والناس. وقوله مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ المضاف محذوف أي من شر ذي الوسواس وهو اسم بمعنى الزلزلة. وأما المصدر فوسواس بالكسر ويحسن أن يقال سمي الشيطان به لأنه كأنه وسوسة في نفسه لأنها صنعته وعمله الذي هو عاكف عليه نظيره إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ [هود: ٤٦] وإنما قال فِي صُدُورِ النَّاسِ ولم يقل «في قلوبهم» لأن الشيطان لا تسلط له على قلب المؤمن الذي