الحرام دون الكعبة دلالة على أن الواجب مراعاة الجهة دون العين، ولأن الشطر الجانب واكتفى به في الآية، ولأن أهل قباء استداروا إلى الكعبة في أثناء الصلاة وفي ظلمة الليل ومن المعلوم أن مقابلة العين من المدينة إلى مكة حيث إنها تحتاج إلى النظر الدقيق لم يتأت لهم حينئذ، ثم لم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم عليهم وسمى مسجدهم بذي القبلتين، ولأن استقبال عين الكعبة لو كان واجبا ولا سبيل إليه إلا بالدلائل الهندسية فإنها هي المفيدة لليقين وغيرها من الأمارات لا يفيد إلا الظن، والقادر على اليقين لا يجوز له الاكتفاء بالظن وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، لزم أن يكون تعلم تلك الدلائل واجبا، ولم يذهب إليه أحد والإنصاف أن القول الأول أقرب إلى التعبد، وإصابة العين للبعيد غير بعيد، فما من نقطتين في الأرض ولا في السماء إلا ويمكن أن يوصل بينهما بخط، والغرض أن يكون المصلي ساجدا على قوس عظيمة أرضية مارّة بقدميه وموضع سجوده ووسط البيت بشرط أن يكون القوس أقل من نصف الدور. وغير عسير معرفة هذا القدر بالدائرة الهندسية وغيرها من الطرق المشهورة فيما بين أهل الهيئة وقد برهنا على كثير منها في كتبنا النجومية، وذكرها هاهنا خروج عن الصناعة مع أن المتعلم لا ينتفع بها دون مقدماتها.
ولمعرفة القبلة أمارات أخر قد يستعين بها المتحير وهي: إما أرضية وهي الجبال والقرى والأنهار، أو هوائية وهي الرياح، أو سماوية وهي النجوم. أما الأرضية والهوائية فغير مضبوطة لكن ربما يكون في الطريق جبل مرتفع يعلم أنه على يمين المستقبل أو شماله أو قدامه أو خلفه، وكذلك الرياح قد تهب في بعض النواحي من صوب معين، وأما السماوية ففي النهار لا بد أن يراعي قبل الخروج عن البلد، الشمس عند الزوال هي بين الحاجبين أم على العين اليمنى أم على اليسرى أم تميل ميلا أكثر من ذلك، فإن الشمس في البلاد الشمالية قلما تعد وهذه المواقع. وكذلك يراعى وقت العصر ويعرف وقت الغروب أنها تغرب عن يمين المستقبل أو هي مائلة إلى وجهه أو قفاه. وكذلك يعرف وقت العشاء الاخرة موضع الشفق، ووقت الصبح مشرق الشمس، ويحتاط في مشرق الصيف والشتاء ومغربها. وبالليل يستدل بالكوكب الذي يقال له «الجدي» فيعرف أنه على قفا المستقبل أو على منكبه الأيمن أو الأيسر في البلاد الشمالية من مكة وفي البلاد الجنوبية منها بخلاف ذلك. فإذا عرف هذه الدلائل في بلده فليعول عليها في الطريق كله إلا إذا طال السفر، فحينئذ إذا انتهى إلى بلد سأل أهل البصيرة أو يراقب هذه الكواكب وهو يستقبل محراب جامع البلد ثم يستدل بها في سائر طريقه. ومعرفة دلائل القبلة فرض