كل طرف بشيء لم تنبعث الدواعي إلى اقتحام الأخطار في هذه الأسفار وحمل الأمتعة إلى الأمصار في البراري والبحار، فلا جرم ينتفع الحامل من حيث إنه يربح، وينتفع المحمول إليه من حيث إنه يجد ما أعوزه. وفي الآية دليل على إباحة ركوب السفينة وإباحة الانتفاع بالتجارة.
الخامسة: وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها أما نزول المطر من السماء فقد مر تحقيق ذلك في تفسير قوله تعالى أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ [البقرة: ١٩] وأن المراد من السماء السحاب أو التقدير من جانب السماء. وأما تنكير مِنْ ماءٍ فلأن الغرض الوحدة الشخصية أو الصنفية يعني ماء هو سبب حياة الأرض لا المطر الذي قد لا ينبت شيئا كما
جاء في الحديث «ليس السنة بالتي لا تمطر وإنما السنة التي تمطر ولا تنبت»«١»
ولا ريب أن في إنزال ذلك الماء دلالات على الصانع ووحدانيته حيث جعله في غاية الصفاء واللطافة والعذوبة وصيره سببا للأرزاق وأنزله بعد قنوط الناس منه وشدة احتياجهم إليه وأودع في نزوله حياة الأرض أي حسنها ونضارتها ورواءها وبهجتها وخضرتها بخروج أصناف النبات وضروب الأعشاب وألوان الأزهار وأنواع الأشجار والأثمار وجريان الجداول بينها والأنهار بحيث تروق الناظرين وتشوق السامعين.
فوقت الربيع في الأزمان ... كسن الصبا في الأسنان.
وموت الأرض من ترشيح الاستعارة، فإنه لما عبر عن بهجتها ونضرتها وخضرتها بالحياة، عبر عن جمودها وكمودتها وبقائها على الهيئة الأصلية بالموت كأنها جسد لا روح فيه. فلا دواء عليه.
السادسة: وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وإنه معطوف على أَنْزَلَ فيدخل تحت حكم الصلة، ويصح عود الضمير فِيها إلى الأرض لأن قوله فَأَحْيا عطف على أَنْزَلَ فاتصل به وصارا جميعا كالشيء الواحد. فكأنه قيل: وما أنزل في الأرض من ماء وبث فيها من كل دابة ويجوز عطفه على فَأَحْيا أي فأحيا بالمطر الأرض وبث فيها من كل دابة، لأن معاش الحيوان بل حياته يدور على الماء وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ [الأنبياء: ٣٠] . واعلم أن الحيوان إما توليدي أو توالدي، وكلا الصنفين يحتاج إلى صانع
(١) رواه مسلم في كتاب الفتن حديث ٤٥. أحمد في مسنده (٢/ ٣٤٢) . [.....]