وصاحب هذا القول ارتكب الإضمار حذرا من لزوم التخصيص في حق المسافر إلا أنه يلزمه ما فر منه أية سلك لأن الصبي والمجنون والمريض كل منهم شهد البلد مع أنه لا يجب عليه الصوم. أما إذا قيل: إن الشهر مفعول به مثل «شهدت عصر فلان وأدركت زمانه» فلا يلزم منه إلا أحد الأمرين وهو التخصيص بقوله وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ فيكون أولى من الأول لأن الإضمار والتخصيص إذا تعارضا فالتخصيص أولى، فكيف إذا وقع الإضمار والتخصيص في جانب والتخصيص وحده في جانب؟ هذا ما قاله الإمام فخر الدين الرازي معترضا به على صاحب الكشاف وغيره.
(قلت) : الإنصاف أن الترجيح مع صاحب الكشاف لأن لزوم الإضمار في الآية ممنوع، وذلك أن شَهِدَ هاهنا متروك المفعول كقولهم «فلان يعطى ويمنع» ومعنى من شهد من كان على حالة الحضر سواء كان في البلد أو في منزل من المنازل ونوى الإقامة. وأما التخصيص فمشترك على القولين إلا أنه على قول صاحب الكشاف أقل لعدم دخول المسافر فيه، فيكون أولى. فإن قيل: فعلى هذا يكون قوله بعيد ذلك أَوْ عَلى سَفَرٍ تكرارا قلنا: إنما أعيد ليترتب عليه حكم القضاء كما للمريض. وأيضا لا يلزم من إيجاب الصوم على الحاضر عدم إيجابه على المسافر، ولو سلم فبالمفهوم أوّلا وبالمنطوق ثانيا، فأين التكرار؟ وإنما وضع المظهر وهو الشهر مقام المضمر حيث لم يقل فمن شهده اعتناء بشأنه واعتلاء لمكانه وتمكينا في القلوب وتعظيما في النفوس كقوله:
أن يسأل الحق يعطى الحق سائله.
وهاهنا بحث وهو أن قوله فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ جملة شرطية، وما لم يوجد الشرط بتمامه لم يترتب عليه الجزاء، والشهر عبارة عن زمان مخصوص من أوله إلى آخره، فظاهر الآية يقتضي أن الصوم لا يجب عليه إلا عند شهود الجزء الأخير وهو محال لأنه يقتضي إيقاع الفعل في الزمان المنقضي. وأجيب بأن المراد من الشهر جزء من أجزائه وهذا مجاز مشهور، والمعنى من شهد جزءا من أجزاء الشهر فليصم كل الشهر. ثم إن كان هذا الجزء من أول الشهر كما لو شهد هلال رمضان فهذا موافق لما
نقل عن علي كرم الله وجهه: أن من دخل عليه الشهر وهو مقيم ثم سافر وجب أن يصوم الكل.
وأما سائر المجتهدين فيقولون: هذا عام يدخل فيه الحاضر والمسافر إلا أن قوله وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ يخصصه، وإن كان في أثناء الشهر فيوافق قول أبي حنيفة: إن المجنون إذا أفاق في أثناء الشهر لزمه قضاء ما مضى. قلت: لا حاجة إلى ارتكاب التجوز المذكور وهو إطلاق لفظ الشهر على جزء من أجزائه، ولا يلزم منه المحال المذكور إذ