أي رزقا واسعا وغذاء لا فناء له ولا انقطاع ولا حصر كقوله يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ [غافر: ٤٠] أو يقال: إن المنافع الواصلة إليهم في الجنة بعضها ثواب وبعضها تفضل كما قال فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ [النساء:
١٧٣] فالفضل بلا حساب إذ الحساب إنما يحتاج إليه إذا كان بحيث إذا أعطى شيئا ينقص قدر الواجب عما كان والثواب ليس كذلك، فإنه بعد انقضاء الأدوار والأعصار يكون الثواب المستحق بحكم الوعد والفضل باقيا. فعلى هذا لا يتطرق الحساب البتة إلى الثواب. أو أراد أن الذي يعطى لا نسبة له إلى ما في خزائن ملكه وقدرته، فلا نسبة للمتناهي إلى غير المتناهي. أو معنى بغير حساب بغير استحقاق، وإنما يعطى بمجرد الفضل والإحسان. أو معناه أنه يزيد على قدر الكفاية إلى عشرة بل سبعمائة من قولهم «فلان ينفق بالحساب» إذا كان لا يزيد على قدر الكفاية. أو أنه لا يخاف نفاد ما عنده فيحتاج إلى حساب ما يخرج منه.
قوله سبحانه كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً الآية. فيه إشارة إلى أن التباغي والتحاسد والتنازع في طلب الدنيا وطيباتها لا يختص بهذا الزمان، وإنما ذلك داء قديم في الإنسان.
ثم الأمة كواحدة كانوا على الحق أو على الباطل فيه للمفسرين أقوال:
الأول: أنهم كانوا على الحق واختاره المحققون لوجوه منها: قوله تعالى لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وهذا يدل على أن النبيين عليهم السلام بعثوا حين الاختلاف وصيرورة بعضهم مبطلا، ولو كانوا قبل ذلك مجتمعين على الكفر لكان بعث الأنبياء إليهم حينئذ أولى. ومنها النقل المتواتر إن آدم وأولاده كانوا مسلمين مطيعين لله تعالى إلى أن قتل قابيل هابيل حسدا وبغيا. وعن ابن عباس أنه كان بين آدم وبين نوح عشرة قرون على شريعة من الحق. ومنها أن وقت الطوفان لم يبق إلا أهل السفينة وكلهم كانوا على الحق والدين الصحيح، فلعل الناس إشارة إليهم. ومنها أن الدين الحق يتوقف على النظر، والنظريات مستندة بالآخرة إلى مقدمات تعلم صحتها بضرورة العقل وإلى ترتيب. كذلك فالعقل السليم لا يغلط لو لم يعرض له سبب من خارج، فالصواب له بالذات والخطأ بالعرض وما بالذات أقدم مما بالعرض بحسب الاستحقاق وبحسب الزمان أيضا. فالأولى أن يقال: كان الناس على الحق ثم اختلفوا لأسباب خارجة كالبغي والحسد ويؤيده
قوله صلى الله عليه وسلم «كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهوّدانه وينصرانه وبمجسانه»«١» .
(١) رواه البخاري في كتاب الجنائز باب ٨٠. مسلم في كتاب القدر حديث ٢٢، ٢٣. أحمد في مسنده (٢/ ٣١٥، ٣٤٦) .