إخبار عن استمرار الكفار على عداوة المسلمين حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ كي يرودكم عنه كقولك «أسلمت حتى أدخل الجنة» بمعنى كي أدخل. ويجوز أن يكون بمعنى «إلى» كقوله وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة: ١٢٠] وقوله إِنِ اسْتَطاعُوا استبعاد لاقتدارهم كقول الرجل لعدوّه وهو واثق بأنه لا يظفر به «إن ظفرت بي فلا تبق عليّ» وَمَنْ يَرْتَدِدْ ومن يرجع مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ باق على الردة فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ أما في الدنيا فلما يفوته من فوائد الإسلام العاجلة فيقتل عند الظفر به ويقاتل إلى أن يظفر به ولا يستحق من المؤمنين موالاة ولا نصرا ولا ثناء حسنا وتبين زوجته منه ويحرم الميراث، وأما في الآخرة فيكفي في تقريره قوله وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ واعلم أن الردة أغلظ أنواع الكفر حكما، وأنها تارة تحصل بالقول الذي هو كفر كجحد مجمع عليه، وكسبّ نبي من الأنبياء.
وأخرى بالفعل الذي يوجب استهزاء صريحا بالدين كالسجود للشمس والصنم وإلقاء المصحف في القاذورات. وكذا لو اعتقد وجوب ما ليس بواجب. ويشترط في صحة الردة التكليف، فلا تصح ردة الصبي والمجنون. وهاهنا بحث أصولي وهو أن جماعة من المتكلمين ذهبوا إلى أن شرط صحة الإيمان والكفر حصول الموافاة. فالإيمان لا يكون إيمانا إلا إذا مات المؤمن عليه، والكفر لا يكون كفرا إلا إذا مات الكافر عليه. لأن من كان مؤمنا ثم ارتد- والعياذ بالله- فلو كان ذلك الإيمان الظاهر إيمانا في الحقيقة لكان قد استحق عليه الثواب الأبدي. فإما أن يبقي الاستحقاقان وهو محال، وإما أن يقال إن الطارئ يزيل السابق وهو أيضا محال، لأنهما متنافيان وليس أحدهما أولى بالتأثير من الآخر، بل السابق بالدفع أولى من اللاحق بالرفع لأن الدفع أسهل من الرفع. وأيضا شرط طريان الطارئ زوال السابق. فلو عللنا زوال السابق بطريان الطارئ لزم الدور. وبحث فروعي: وهو أن المسلم إذا صلى ثم ارتد ثم أسلم في الوقت فعند الشافعي: لا إعادة عليه لأن شرط حبوط العمل أن يموت على الردة لقوله تعالى عطفا على الشرط فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ وعند أبي حنيفة لزمه قضاء ما أدى وكذلك الحج لما جاء في موضع آخر مطلقا وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام: ٨٨] والحبط في اللغة أن تأكل الإبل شيئا يضرها فتعظم بطونها فتهلك.
وفي الحديث «وإن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطا أو يلم»«١»
سمي بطلان الأعمال بهذا لأنه كفساد الشيء بسبب ورود المفسد عليه.
(١) رواه البخاري في كتاب الجهاد باب ٣٧. مسلم في كتاب الزكاة حديث ١٢١. ابن ماجه في كتاب الفتن باب ١٨. أحمد في مسنده (٣/ ٧، ٢١) . [.....]