وفائدة قوله مُسَمًّى أن يعلم أن من حق الأجل أن يكون معلوما كالتوقيت بالسنة والأشهر والأيام. وإنه لو قال إلى الحصاد أو إلى قدوم الحاج لم يجز لعدم التسمية. ثم إنه تعالى أمر في المداينة بشيئين: الكتبة والاستشهاد ليكون كلا المتداينين أوثق وآمن من النسيان والتفاوت والتخالف في مقدار الدين وفي انقضاء الأجل وفي سائر ما تشارطا عليه. وهذا الأمر قيل للوجوب وهو مذهب عطاء وابن جريج والنخعي، وجمهور المجتهدين على أنه للندب لإجماع المسلمين قديما وحديثا على البيع بالأثمان المؤجلة من غير كتبة ولا إشهاد، ولأن في إيجابهما حرجا وتضييقا. وقيل: كانا واجبين فنسخا بقوله: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وهذا مذهب الحسن والشعبي والحكم بن عتيبة. أما المخاطب بقوله: فَاكْتُبُوهُ فليس كل أحد لوجود أميين كثيرين في الدنيا، بل من له استئهال لكتبه ولهذا قال: وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ وليس ذلك أيضا على الإطلاق ولكنه يجب أن يكون الكاتب متصفا بالعدل فيكتب بحيث لا يزيد في الدين ولا ينقص عنه ولا يخص أحدهما بالاحتياط دون الآخر، ويحترز عن الألفاظ المجملة التي يقع النزاع في المراد منها.
وهذا بالحقيقة أمر للمتداينين بتخير الكاتب وأن لا يستكتبوا إلا فقيها أديبا دينا. قال بعض الفقهاء: العدل أن يكون ما يكتبه متفقا عليه بين المجتهدين ولا يكون بحيث يجد قاض من قضاة المسلمين سبيلا إلى إبطاله وَلا يَأْبَ كاتِبٌ ولا يمتنع أحد من الكتاب وهو معنى التنكير في كاتب أَنْ يَكْتُبَ وقوله كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ إما أن يكون متعلقا بما قبله فالتقدير:
ولا يأب كاتب أن يكتب مثل ما علمه الله تعالى فيقع قوله بعد ذلك فَلْيَكْتُبْ تأكيدا للأول أي فليكتب تلك الكتابة التي علمه الله تعالى إياها أو بما بعده فيكون الأول نهيا عن الامتناع مطلقا، والثاني أمرا بالكتابة المقيدة والمطلق لا دلالة له على المقيد، فلا يكون الثاني تأكيدا للأول وإنما يكون بيانا له. ثم النهي عن الامتناع عن الكتابة لكل كاتب إنما هو على سبيل الإرشاد والأولى تحصيلا لحاجة المسلم وشكرا لما علمه الله من كتابة الوثائق فهو كقوله:
وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ [القصص: ٧٧] وقيل: إنه على سبيل الإيجاب ولكنه نسخ بقوله وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ. وعن الشعبي أنه فرض كفاية فإن لم يجد إلا كاتبا واحدا وجبت الكتابة عليه، وإن وجد أشخاصا فالواجب كتابة أحدهم. وقيل: متعلق الإيجاب هو أن يكتب كما علمه الله يعني أنه بتقدير أن يكتب، فالواجب أن يكتب كما علمه الله وأن لا يخل بشرط من الشروط كيلا يضيع مال المسلم بإهماله. واعلم أن الكتابة بعد حصول الكاتب العارف بشروط الصكوك والسجلات لا تتم إلا بإملاء من عليه الحق ليدخل في جملة إملائه اعترافه بمقدار الحق وصفته وأجله إلى غير ذلك، فلهذا قال سبحانه وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ والإملال والإملاء لغتان: قال الفراء: أمللت عليه الكتاب لغة