فالحاكم يمنع الظالم من الظلم، وحكمة اللجام تمنع الفرس من الاضطراب،
وفي حديث النخعي «حكم اليتيم كما تحكم ولدك»
أي امنعه من الفساد. وسميت الحكمة حكمة لأنها تمنع عما لا ينبغي وأما التشابه فهو كون الشيئين بحيث يعجز الذهن عن التمييز بينهما. ثم يقال لكل ما لا يهتدي الإنسان إليه متشابه إطلاقا لاسم السبب على المسبب، ونظيره المشكل لأنه أشكل أي دخل في شكل غيره، ثم إن كل أحد من أصحاب المذاهب يدعي أن الآيات الموافقة لمذهبه محكمة، ولقول خصمه متشابهة. فالمعتزلي يقول: فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ [الكهف: ٢٩] محكم وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ [التكوير: ٢٩] متشابه.
والسني يقلب الأمر في ذلك. وكذا المعتزلي يقول: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ [الأنعام: ١٠٣] محكم وقوله وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ [القيامة: ٢٢، ٢٣] متشابه. والسني بالعكس. فلا بد من قانون يرجع إليه فنقول: صرف اللفظ عن الراجح إلى المرجوح لا بد فيه من دليل منفصل. وهو إما لفظي أو عقلي. والدليل اللفظي لا يكون قاطعا البتة لتوقفه على نقل اللغات، وعلى وجوه التصريف والإعراب، وعلى عدم الاشتراك وعدم المجاز وعدم التخصيص وعدم الإضمار وعدم المعارض النقلي والعقلي، وكل ذلك مظنون، والموقوف على المظنون أولى أن يكون مظنونا فلا يجوز التعويل عليه في المسائل الأصولية، فإذن لا سبيل إلى صرف اللفظ عن معناه الراجح إلى معناه المرجوح إلا بالدلالة القطعية العقلية، على أن معناه الراجح محال عقلا فإذا قامت هذه الدلالة وعرف المكلف أنه ليس مراد الله تعالى من هذه اللفظ ما أشعر به الظاهر، فعند هذا لا يحتاج إلى أن يعرف أن ذلك المرجوح الذي هو المراد ماذا، لأن السبيل إلى ذلك إنما يكون بترجيح مجاز على مجاز، وترجيح تأويل على تأويل، وذلك الترجيح لا يمكن إلا بالدلائل اللفظية وهي ظنية كما بينا ولا سيما المستعملة في ترجيح مرجوح على مرجوح آخر، فإذن الخوض في تعيين التأويل غير جائز والله أعلم.
المسألة الثانية في حكاية أقوال الناس في المحكم والمتشابه. عن ابن عباس أن المحكمات هي الآيات الثلاث في سورة الأنعام قُلْ تَعالَوْا [آية: ١٥١] إلى آخرها، وعلى هذا فالمحكم عنده ما لا يتغير باختلاف الشرائع، لأن هذه الآيه كذلك. والمتشابهات هي التي اشتبهت على اليهود كأوائل السور، أوّلوها على حساب الجمل ليستخرجوا بقاء هذه الأمة فاختلط الأمر عليهم واشتبه. وعنه أن المحكم هو الناسخ والمتشابه هو المنسوخ.
وقال الأصم: المحكم هو الذي يكون دلائله واضحة لائحة كإنشاء الخلق في قوله: ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً [المؤمنون: ١٤] والمتشابه ما يحتاج في معرفته إلى التدبر والتأمل كآيات