فالصبر يشمل أداء جميل التكاليف. ثم الإنسان قد يلتزم من نفسه ما هو غير واجب عليه، فالصادق من يخرج عن عهدة ذلك رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ [الأحزاب: ٢٣] ثم المواظبة على سلوك سبيل الخيرات أمر محمود فأشير إلى ذلك بقوله: وَالْقانِتِينَ ثم إن هاهنا أمرين يعينان على الطاعة: الخدمة بالمال والابتهال والتضرع إلى حضرة القدس والجلال وذلك قوله: وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ فقوله: وَالْمُنْفِقِينَ معناه الشفقة على خلق الله وباقي الأوصاف حاصله التعظيم لأمر الله.
قال الكلبي: لما ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة قدم عليه حبران من أحبار أهل الشام، فلما أبصرا المدينة قال أحدهما لصاحبه: ما أشبه هذه المدينة بصفة مدينة النبي صلى الله عليه وسلم الذي يخرج في آخر الزمان! فلما دخلا على النبي صلى الله عليه وسلم عرفاه بالصفة والنعت فقالا: أنت محمد؟ قال: نعم. قالا: وأنت أحمد؟
قال: نعم. قالا: إنا نسألك عن شهادة فإن أنت أخبرتنا بها آمنا بك وصدقناك. فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: سلاني. قالا: أخبرنا من أعظم شهادة في كتاب الله فأنزل الله على نبيه شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فأسلم الرجلان وصدقا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ووجه النظم أنه مدح المؤمنين وأثنى عليهم بقوله: رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا ثم بين أن دلائل الإيمان ظاهرة جلية.
واعلم أن الشهادة من الله تعالى ومن الملائكة ومن أولي العلم يحتمل أن تكون بمعنى واحد، ويحتمل أن لا تكون كذلك. أما الأول فتقريره من وجهين: أحدهما أن الشهادة عبارة عن الإخبار المقرون بالعلم، فهذا المعنى مفهوم واحد وهو حاصل في حق الله تعالى وفي حق الملائكة وفي حق أولي العلم. أما من الله فذلك أنه أخبر في القرآن أنه إله واحد لا إله إلا هو وذلك في مواضع كثيرة كالإخلاص وآية الكرسي وغيرهما، والتمسك بالدلائل السمعية في هذه المسألة جائز لأن العلم بنبوّة محمد صلى الله عليه وسلم لا يتوقف على العلم بها. وأما من الملائكة وأولي العلم وهم الذين عرفوا وحدانية الله تعالى بالدلائل القاطعة، فكلهم أخبروا أيضا أن الله واحد لا شريك له. وثاني الوجهين أن تجعل الشهادة عبارة عن الإظهار والبيان. فالله تعالى أظهر ذلك وبيّن بأن خلق ما يدل على ذلك، والملائكة وأولو العلم أظهروا ذلك وبينوه. أيضا الملائكة للرسل والرسل للعلماء والعلماء لعامة الخلق. فالتفاوت إنما وقع في الشيء الذي به حصل الإظهار والبيان. فأما مفهوم الإظهار والبيان فشيء واحد في حق الكل، فكأنه قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: إن وحدانية الله تعالى أمر قد ثبت بشهادة الله وشهادة جميع المعتبرين من خلقه، ومثل هذا الدين المبين والمنهج القويم لا يضعف بمخالفة بعض الجهال من النصارى وعبدة الأوثان، فأثبت أنت وقومك يا محمد على ذلك، فإنه هو الإسلام والدين عند الله هو الإسلام. وأما الثاني فهو قول من يقول شهادة الله تعالى على