زكريا بنى لها محرابا وهي غرفة يصعد إليها بسلم. وقيل: هو أشرف المجالس ومقدّمها كأنها وضعت في أشرف موضع من بيت المقدس. وقيل: كانت مساجدهم تسمى المحاريب. والتركيب يدل على الطلب فكان صدر المجلس يسمى محرابا لطلب الناس إياه. وكان إذا خرج غلق عليها سبعة أبواب فكان يجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف وفاكهة الصيف في الشتاء، وذلك قوله عز من قائل كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا من أين لك هذا الرزق الذي لا يشبه أرزاق الدنيا وهو آت في غير حينه والأبواب مغلقة؟ قالت هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فلا تستبعد إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ يحتمل أن يكون من تمام كلام مريم، وأن يكون معترضا من كلام الله تعالى.
واعلم أن الأمور الخارقة للعادة في حق مريم كثيرة فمنها: أنه
روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم «ما من مولود إلا والشيطان يمسه حين يولد فيستهل صارخا من مس الشيطان إياه إلا مريم وابنها» »
قلت: وذلك لدعاء حنة وَإِنِّي أُعِيذُها ومنها تكلمها في الصغر. ومنها حصول الرزق لها من عند الله كما
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى الله عليه وسلم جاع في زمن قحط فأهدّت له صلى الله عليه وسلم فاطمة رضي الله عنها رغيفين وبضعة لحم آثرته بها فرجع صلى الله عليه وسلم بها إليها وقال: هلمي يا بنية.
فكشفت عن الطبق فإذا هو مملوء خبزا ولحما فبهتت وعلمت أنها نزلت من عند الله. فقال النبي صلى الله عليه وسلم لها: أنى لك هذا؟ قالت: هو من عند الله. إن الله يرزق من يشاء بغير حساب.
فقال صلى الله عليه وسلم: الحمد لله الذي جعلك شبيهة سيدة نساء بني إسرائيل. ثم جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب والحسن والحسين وجميع أهل بيته صلى الله عليه وسلم حتى شبعوا وبقي الطعام كما هو، فأوسعت فاطمة رضي الله عنها على جيرانها.
وفي أمثال هذه الخوارق من غير الأنبياء دليل على صحة الكرامات من الأولياء. والفرق بين المعجزة والكرامة أن صاحب الفعل الخارق في الأول يدعي النبوة، وفي الثاني يدعي الولاية، والنبي صلى الله عليه وسلم يدعي المعجز ويقطع به، والولي لا يمكنه أن يقطع به، والمعجزة يجب انفكاكها عن المعارضة، والكرامة بخلافها.
وقال بعضهم: الأنبياء مأمورون بإظهار المعجزة، والأولياء مأمورون بإخفاء الكرامات أما المعتزلة فقد احتجوا على امتناع الكرامات. بأنها دلالات صدق الأنبياء، ودليل النبوة لا يوجد مع غير النبي كما أن الفعل المحكم لما كان دليلا على أن فاعله عالم فلا جرم لا يوجد في غير العالم. وأجابوا عن حديث أبي هريرة بعد تسليم صحته أن استهلال المولود صارخا من مس الشيطان تخييل وتصوير لطمعه فيه، كأنه يمسه ويضرب بيده عليه ويقول:
(١) رواه البخاري في كتاب الأنبياء باب ٤٤. مسلم في كتاب الفضائل حديث ١٤٦.