للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وأما معناه فالبركة إما النمو والتزايد وكثرة الخير، وإما البقاء والدوام. وكل شيء ثبت ودام فقد برك، ومنه برك البعير إذا وضع صدره على الأرض والبركة شبه الحوض لثبوت الماء فيها، وتبارك الله لثبوته لم يزل ولا يزال، والبيت مبارك لما يحصل لمن حجه واعتمره وعكف عنده وطاف حوله من الثواب وتكفير الذنوب.

قال صلى الله عليه وسلم «صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام»

وقال صلى الله عليه وسلم: «الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة» «١»

ولو استحضر العاقل في نفسه أن الكعبة كالنقطة وصفوف المتوجهين إليها في الصلوات في أقطار الأرض وأكنافها ولعمري إنها غير محصورة كالدوائر المحيطة بالمركز، ولا شك أنه يحصل فيما بين هؤلاء المصلين أشخاص أرواحهم علوية، وقلوبهم قدسية، وأسرارهم نورانية، وضمائرهم ربانية، علم أنه إذا توجهت تلك الأرواح الصافية إلى كعبة المعرفة واستقبلت أجسادهم هذه الكعبة الحسية، اتصلت أنوار أولئك الأرواح بنوره وعظم لمعان الأضواء الروحانية في سره. قال القفال: يجوز أن تكون بركته ما ذكر في قوله:

يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ [القصص: ٥٧] فيكون كقوله: إِلَى الْأَرْضِ [الأنبياء: ٧١] المقدسة الَّتِي بارَكْنا فِيها [الأنبياء: ٧١] وإن فسرنا البركة بالدوام فلا شك أنه لا تنفك الكعبة من الطائفين والعاكفين والركع السجود. وإذا كانت الأرض كرة وكل آن يفرض فإنه صبح لقوم ظهر لآخرين وعصر لغيرهم أو مغرب أو عشاء، فلا تخلو الكعبة عن توجه قوم إليها البتة. وأيضا بقاء الكعبة على هذه الحالة ألوفا من السنين دوام. وأما كونه هدى للعالمين فلأنه قبلتهم ومتعبدهم أو لأنه يدل على وجود الصانع وصدق محمد صلى الله عليه وسلم بما فيه من الآيات والأعاجيب، أو لأنه يهدي إلى الجنة. ومعنى هدى هاديا أو ذا هدى قاله الزجاج، وجوز أن يكون محله رفعا أي وهو هدى فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ يحتمل أن يراد بها ما عددنا من بعض فضائله، ويكون قوله: مَقامُ إِبْراهِيمَ غير متعلق بما قبله، فكأنه قيل فيه آيات بينات ومع ذلك فهو مقام إبراهيم وموضعه الذي اختاره وعبد الله فيه. وقال الأكثرون إن الآيات بيانه وتفسيره قوله: مَقامُ إِبْراهِيمَ إما بأن يجعل وحده بمنزلة آيات كثيرة لأنه معجز رسول وكل معجز ففيه دليل أيضا على علم الصانع وقدرته وإرادته وحياته وتعاليه عن مشابهة المحدثات، فلقوة هذا الدليل عبر عنه بلفظ الجمع كقوله: إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً [النحل: ١٢٠] وإما بأن يجعل المقام مشتملا على آيات لأن أثر القدم في الصخرة الصماء


(١) رواه البخاري في كتاب العمرة باب ١. مسلم في كتاب الحج حديث ٤٣٧. الترمذي في كتاب الحج باب ٢، ٨٨. النسائي في كتاب الحج باب ٣، ٥. ابن ماجه في كتاب المناسك باب ٣. الدارمي في كتاب مناسك الحج باب ٧. الموطأ في كتاب الحج حديث ٦٥. أحمد في مسنده (١/ ٣٨٧) .

<<  <  ج: ص:  >  >>