ولما رأى أبو أمامة رؤوسا منصوبة على درج مسجد دمشق دمعت عيناه ثم قال:
كلاب النار هؤلاء شر قتلى تحت أديم السماء، وخير قتلى تحت أديم السماء الذين قتلهم هؤلاء. فقال له أبو غالب: أشيء تقوله برأيك أم شيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: بل سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو لم أسمعه، إلا مرة أو مرتين أو ثلاثا حتى عد سبعا ما حدثتكموه. قال: فما شأنك دمعت عيناك؟ قال: رحمة لهم. كانوا من أهل الإسلام فكفروا ثم قرأ هذه الآية. ثم أخذ بيده فقال: إن بأرضك منهم كثيرا فأعاذك الله منهم. هذا مما أخرجه الإمام أبو عيسى الترمذي في جامعه. ولكن المشهور من مذهب أهل السنة أنّ الخروج على الإمام لا يوجب الكفر البتة، والاستفهام في قوله تعالى: أَكَفَرْتُمْ بمعنى الإنكار. قال القاضي: وفيه وكذا في قوله: بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ دليل على أن الكفر منهم لا من الله. وقالت المرجئة: فيه دلالة على أن العذاب لا يكون إلا للكافر. أما قوله: فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ فالمراد بها الجنة التي هي محل الرحمة. وموقع قوله: هُمْ فِيها خالِدُونَ موقع الاستئناف كأنه قيل: كيف يكونون فيها؟ فأجيب بذلك أي لا يظعنون عنها ولا يموتون. وفي إقامة الرحمة مقام الجنة دليل على أن العبد وإن كثرت طاعته فإنه لا يدخل الجنة إلا بفضل الله وبرحمته. وفي إضافة الرحمة إلى نفسه وتعليل العذاب بكفرهم والنص على خلود أهل الثواب دون أهل النار وإن كانوا مخلدين أيضا دلائل وإشارات إلى أن جانب العفو والمغفرة والرحمة مغلب. وكيف لا وقد أردفه بقوله: تِلْكَ الأحكام التي وردت في حيز الوعيد والوعد وانقضى ذكرها آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ متلبسة بِالْحَقِّ العدل من جزاء المحسن بإحسانه وجزاء المسيء بإساءته، أو متلبسة بالمعنى الحق لأن معنى المتلو حق وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ ولكن مصالح الخلق لا تنتظم إلا بتهديد المذنبين، وإذا حصل التهديد فلا بد من التحقيق دفعا للكذب عمن هو أصدق القائلين. قال الجبائي:
قوله: ظُلْماً نكرة في سياق النفي فوجب أن لا يريد شيئا مما يكون ظلما سواء فرض منه أو من العبد على نفسه أو على غيره، وإذا لم يرد لم يفعل إذ لو كان فاعلا لشيء من الأقسام الثلاثة كان مريدا له هذا خلف، فثبت بهذه الآية أنه تعالى غير فاعل للظلم وغير فاعل لأعمال العباد، إذ من جملتها القبائح، وقد بينا أنه لا يريدها. ثم إنه تعالى تمدح بأنه لا يريد ذلك، والتمدح إنما يصح لو صح منه فعل ذلك الشيء وصح منه كونه مريدا له، فدلت الآية على أنه قادر على الظلم وعلى أن يمنع الظلمة من الظلم على سبيل الإلجاء والقهر فلهذا قال: وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وأيضا لما ذكر أنه لا يريد الظلم والقبائح استدل عليه بأن فاعل القبيح إنما يفعل القبيح للجهل أو العجز أو الحاجة، وكل ذلك على