للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وبتقدير عدم المانع فلذات الدنيا مشوبة بالآلام ومنافعها مخلوطة بالمضار، وبتقدير صفائها عن الشوائب فلا بد لها من الزوال والانقطاع، ومنافع الآخرة أصفى وأضفى وأبقى وأنقى ولا سيما منافعها العقلية، وأي نسبة لانتفاع الحمار بلذة قبقبه؟ فذبذبه إلى ابتهاج الملائكة المقربين بشروق أنوار العزة عليهم، ثم رغبهم بنوع آخر فقال: وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ كأنه قيل: إن تركتم الجهاد وتم لكم الاحتراز عن الموت أو القتل بقيتم أياما قلائل في الدنيا مع اللذات الخسيسة الحسية والخيالية فتركتموها لا محالة فتكون لذاتها لغيركم وتبعاتها عليكم، ولو أعرضتم عن اللذات الفانية وبذلتم النفس والمال في دين الله وصلتم إلى أعلى الدرجات وهي مقام العندية. وإنما قدم القتل على الموت في الآية الأولى وعكس في الثانية ليقع الابتداء والختم على ما هو أفضل، أو لأن الآية الأولى سيقت لبيان فضل الجهاد والقتل في سبيله، فقدم ما هو الأغلب من حال المجاهدين الذين يفارقون الدنيا وهو القتل، والثانية سيقت لبيان أن حشر الخلائق كلهم إليه بأي وجه يفارقون الدنيا. ولا شك أن الغالب على أحوال الخلق كلهم الموت، ولهذا السر أطلق القتل إطلاقا ليعم أنواع القتل كلها. وفي قوله: لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ لطائف منها: تقديم الجار على الفعل لإفادة الحصر، وأنهم لا يحشرون إلى غيره، وأنه لا حكم لأحد في ذلك اليوم إلا له، ومنها تخصيص اسم الله بالذكر ليدل على كمال اللطف والقهر، فهو لدلالته على كمال اللطف أعظم أنواع الوعد، ولدلالته على كمال القهر أشد أنواع الوعيد. ومنها إدخال لام التوكيد القسمي في الحرف المتصل باسم الله تنبيها على أن الإلهية تقتضي هذا الحشر لحكمة المجازاة. ومنها بناء تُحْشَرُونَ على المفعول تعويلا على ما هو مركوز في العقول من أنه هو الذي يبدىء ويعيد، لا قدرة على الإعادة لأحد غيره. ومنها أنه أضاف حشره إلى غيرهم ليعلم أنهم أحياء كانوا أو أمواتا لا يخرجون عن قبضته. ومنها أنه خاطب الكل ليعلم أن القاتل والمقتول والظالم والمظلوم والقاعد والمجاهد كلهم في بساط العدل وفضاء القضاء موقوفون. واعلم أنه تعالى ذكر في الآيتين المغفرة والرحمة والحشر إليه. فالأول إشارة إلى من يعبده خوفا من عقابه، والثاني إشارة إلى من يعبده طمعا في ثوابه، والثالث إشارة إلى من يعبده لأنه يستحق العبادة. فهم أهل الحشر إلى الله لا إلى ثوابه ولا إلى إزالة عقابه، وما أحسن هذا النسق!

يروى أن عيسى عليه السلام مر بأقوام نحفت أبدانهم واصفرت وجوههم، ورأى عليهم سيما الطاعة فقال: ماذا تطلبون؟ فقالوا: نخشى عذاب الله. فقال: هو أكرم من أن لا يخلصكم من عذابه. ثم مر بآخرين فرأى عليهم تلك الآثار فسألهم فقالوا: نطلب الجنة والرحمة. فقال: هو أكرم من أن يمنعكم رحمته. ثم مر بقوم ثالث ورأى عليهم سمات

<<  <  ج: ص:  >  >>