هذه الأسرار فإنها علق مضنة وبه ثبت جميع ما ورد في الشريعة الحقة والله أعلم. ومعنى عِنْدَ رَبِّهِمْ أنهم مقربون ذوو كرامة كقوله: فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ [فصلت: ٣٨] أو المراد بحيث لا يملك أحد جزاءهم سوى ربهم، أو المراد في علمه وحكمه كما يقال:«هذه المسألة عند الشافعي كذا» . يرزقون كما يرزق سائر الأحياء يأكلون ويشربون وهو تأكيد لكونهم أحياء ووصف لحالهم التي هم عليها من التنعم برزق الله كما ورد في الحديث.
فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وهو توفيق الشهادة وما خصصهم به من التفضيل على غيرهم من قبل تعجيل رزق الجنة ونعيمها. وقال المتكلمون: الثواب منفعة خالصة دائمة مقرونة بالتعظيم. فقوله: يُرْزَقُونَ إشارة إلى المنفعة وقوله: فَرِحِينَ إشارة إلى الابتهاج الحاصل بسبب التعظيم. وبلسان الحكماء يُرْزَقُونَ إشارة إلى كون ذواتهم مشرقة بالمعارف الإلهية وفَرِحِينَ رمز إلى ابتهاجها بالنظر إلى ينبوع النور ومصدر الكمال، ويَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ بإخوانهم من المجاهدين الذين لم يقتلوا فيلحقوا بهم. والاستبشار السرور الحاصل بالبشارة. ومعنى مِنْ خَلْفِهِمْ أنهم بقوا بعدهم. وقيل لم يلحقوا بهم أي لم يدركوا فضلهم ومنزلتهم أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ بدل الاشتمال من «الذين» . وذلك أن الله يبشرهم بأن من تركوا خلفهم من المؤمنين يبعثون امنين يوم القيامة، فهم مستبشرون بأنه لا خوف عليهم. وإنما بشرهم الله بذلك لأنهم لما فارقوا الدنيا بغتة كان ذلك مظنة أن يكون لهم نوع تعلق بأحوال إخوانهم وهو شبه تألم، فأكرمهم الله تعالى بإزالة ذلك التعلق بأن أعلمهم أمن إخوانهم من عذاب الله فحصل لهم سروران: من قبل حالهم في أنفسهم وذلك قوله: فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ومن قبل حال إخوانهم وأعزتهم وذلك قوله وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ ثم كرر هذا المعنى لمزيد التأكيد فقال:
يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وهي الثواب. وفضل وهو التفضل الزائد وهذا هو سرورهم بسعادة أنفسهم. وَأَنَّ اللَّهَ أي وبأن الله لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ وهذا سرورهم بسعادة إخوانهم المؤمنين. ثم إنه تعالى مدح المؤمنين بغزوتين متصلتين بغزوة أحد تعرف أولاهما بغزوة حمراء الأسد، والثانية بغزوة بدر الصغرى. أما الأولى فما
روي أن أبا سفيان وأصحابه لما انصرفوا من أحد فبلغوا الروحاء ندموا وقالوا: إنا قتلنا أكثرهم ولم يبق منهم إلّا القليل. فلم تركناهم؟ فهموا بالرجوع فبلغ ذلك رسول الله، فأراد أن يرهب الكفار ويريهم من نفسه ومن أصحابه قوّتهم فندب أصحابه إلى الخروج في طلب أبي سفيان وقال:
لا أريد الآن أن يخرج معي إلا من حضر يومنا بالأمس. فخرج في سبعين من الصحابة حتى بلغوا حمراء الأسد- وهي من المدينة على ثمانية أميال- فألقى الله الرعب في قلوب