للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بالمص اللبن إلى بطنه، علم أن لذلك صانعاً صنعه ومدبراً دبره (١).

وقد ضرب الله المثل بالبعوضة مع صغر خلقها ووهن قوتها، فمن فكر في نفسه في صغر خلقها وتقدير أعضائها وأجزائها والإلهام المركب فيها حتى حصل لها به المعرفة لمنافعها ومضارها، فلو أراد العاقل أن يعرف كيف ركب الإلهام فيها حتى عرفت أن بين جلد الإنسان ولحمه دماً هو غذاؤها ولولا معرفتها بذلك لم تقصد إلى مص الجلد ثم تديم المص إلى أن يخرج لها ذلك الدم، وكيف الإلهام الذي عرفت به أن في وقع الكفّ عليها تلفها، وكيف حذرها ومعرفتها بأن في الفرار من وقوع الكف عليها نجاة لها، وكيف هيئتها التي قصدت بها الطيران والفرار، لم يقدر على إدراك ذلك فيعلم بذلك أن لها خالقاً ومدبراً دبر هذا الصنع العجيب فيها.

ومن نظر إلى السماء وحسن خلقها واتساقه وعدم الفطور فيها، وإلى الشمس والقمر والنجوم الجارية فيها بلا فتور على نظام متسق في أوقات مختلفة متراخية، أو نظر إلى الأرض وما فيها من الجبال والرمال والأشجار والثمار والزروع المختلفة في المنظر والطعم والريح علم أن لها محدثاً وخالقاً ومدبراً دبرها، ومن توهم بنفسه أو تصور بعقله أن هذا كله أو بعضه وجد بغير صانع صنعه ولا موجد أو جده نسب إلى الجهل والحماقة، كما ينسب إلى الجهل وقلة العقل من كان بين يديه تراب وتصور عنده أنه يصير بنفسه طيناً ثم لُبْناً ثم داراً مبنية بغير صانع يصنعه من بني آدم، يستدل بما شاهد من الدور المبنية والصُنَع المتقنة ومشاهدته لمن يصنع ذلك على أن خلق السموات والأرض وما فيهن من الصنع المتقن من صانع صنعها، واستدل بإتقان الصنع بذلك على أن صانعها عالم بما صنع وقادر على (٢) ما صنع، إذ لا يتأتى الصنع العجيب المتقن ممن لا علم له ولا قدرة على ما صنع،


(١) هذه الكلمة ليست في متن الأصل وإنما أحال على هامشه وليست ظاهرة فيه وأثبتها من (ب).
(٢) في - ب - (بما).

<<  <  ج: ص:  >  >>