للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وللمتفضل أن يترك التفضل بما تفضل به، فلو كلف الله العباد بما يثقل عليهم من العبادات وما لا طاقة لهم به كان ذلك جائزاً منه (١) ولا يكون ظالماً لهم، وكذلك لو لم يثبهم على عمل الطاعة لم يكن ظالماً لهم، ولو أثاب من عصاه وأدخله الجنة لم يخرج بذلك عن الحكمة (٢)، ولكنه سبحانه قد أخبر أنه ثيب المطيعين بفضل منه ويعذب الجاحدين بعدل منه، فاستحقاقه للحكمة، لذاته لا لفعله الحكمة (٣)، إذ هو موصوف بالحكة قبل أن يفعل الحكمة، وقبل أن يخلق الواصفين له بها، وثبت له أن يتصرف بالعباد كيف شاء لأنهم ملكه لا يسأل عما يفعل وهم يسألون.

وقالت المعتزلة والقدرية: لا يجوز من الله في الحكمة إلا ما يجوز من الحكيم مِنَّا، ولا يجوز أن يوصف الله بتكليف العبد ما لا يطيقه، وقد خلق الله المكلفين تعريضاً للمنافع لهم ليصيروا إلى أسنى المنازل، ولا يفعل بهم إلا ما فيه لهم المصلحة، وإن فعل بهم غير ذلك فقد ظلمهم (٤).


(١) في - ح- (وما لا طاقة لهم به لم يكن ظالماً لهم وكان جائزاً منه).
(٢) تقدم الكلام على ذلك في التعليق على أول هذا الفصل.
(٣) (الحكمة) ليست في - ح-.
(٤) ما ذكره المصنف هنا من قوله وقول المعتزلة يعود إلى مسألة اختلفت فيها أقوال الناس، وهي مسألة الحكمة والتعليل في أفعال الله ومأموراته والمشهور فيها ثلاثة أقوال:
القول الأول: قول نفاة التعليل والحكمة الذين يقولون إن الله لم يخلق هذا العالم لغاية ولم يخلق شيئا لشيء، وأوامره لا لعلة ولا لداع ولا باعث، بل فعل ذلك لمحض المشيئة والإرادة، وهذا قول الأشعري وأصحابه، وبه قال طوائف من أتباع الأئمة الأربعة منهم القاضي أبي يعلى الحنبلي وابن الزاغوني وغيرهم، ولهذا زعم هؤلاء أن جميع ما يفعله الله بالعباد لا علة فيه ولا حكمة سواء في ذلك من ناحية أمره وشرعه أو من ناحية فعله، فأجازوا من ناحية أمره أن يكلف العبد ما لا يطيق، وزعموا أن الأفعال ليس فيها حسن وقبيح قبل ورود الشرع، لأن الشرع هو المحسن والمقبح للأفعال، كما أجازوا من ناحية فعله أن يعذب الطائع ويثيب العاصي وينصر أعداءه ويخزي أولياءه وليس في ذلك خروج عن الحكمة ولا ظلم لأنه لا توجد حكمة عندهم في الفعل، أما الظلم فإن الظالم عندهم من تصرف بما لا يملك وجه حق - السموات والأرض وما فيهما ملك لله عزوجل فكيفما تصرف فيها فلا ظلم ولا خروج عن الحكمة - وهذا قول باطل فاسد يدل على فساده الشرع والعقل والواقع، فقد نص الله جل وعلا على أنه الحكيم العليم الخبير في آيات كثيرة، فإذا لم تكن الحكمة في أفعاله وأوامره يصبح وصفه بـ الحكيم اسماً على غير مسمى ووصفاً من غير صفة وهذا باطل، وهو تعطيل لأسماء الله وصفاته جل وعلا.
وقول المصنف هنا: "فاستحقاقه الحكمة لذاته لا لفعله الحكمة" قول باطل لا دليل عليه، وهو تعطيل لهذه الصفة، لأن الحكمة لا تظهر إلا في الفعل والأمر كالكريم والخالق، وهي صفات ذاتية فعلية فهو موصوف بأنه الخالق وأنه الحكيم والكريم قبل وجود الخلق والأمر الدال على الحكمة والكرم، كما أن هذا الكون بكل ما فيه من سماء وأرض وكواكب وحيوان يدل على الحكمة ورحمة بالغة، وهذا ظاهر في التشريعات الإلهية من صلاة وزكاة وحج وصيام، كما هي أظهر في الأمور التي تتعلق بحياة الناس وتنظيمها من الناحية المالية والناحية الاجتماعية والجنايات والحدود، وغير ذلك وما خفي على الناس وجه الحكمة فيه فإن ذلك راجع إلى قصور الأذهان عن إدراك حكمته البالغة جل وعلا.
أما قول هؤلاء إن الله قادر على على أن يوجد العباد صالحين وأن يزيل أسباب الفساد وأن يدخلهم الجنة مباشرة بدون تكليف وما إلى ذلك من القول فإن هذا حق من ناحية قدرته عزوجل فكما قال عن نفسه: {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} وهي قدرة مطلقة لايحده شيء ولا يخرج عنها شيء، لكن الخلق خلقوا لغاية وهي كما قال: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} وقد تقدم ذكر الأقوال في (ليعبدون) والقول الراجح، فهذا يدل على أن الخلق خلقوا للعبادة وهي عبادة مطلوبة بالاختيار لا بالإكراه، والحياة جعلت للابتلاء ليظهر الصالح من الطالح كما قال عزوجل: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} فمن تصور هذه الغاية من الخلق وهي العبادة الواقعة بالاختيار وأن الطريق إليها ضمن الابتلاء بالأوامر والنواهي ليظهر الصالحون ويتميزوا ويعرف غيرهم ويعرف غيرهم ويتميزوا، من أدرك هذا تمام الإدراك أدرك كثيراً من نواحي حكمة الله البالغة في خلقه الإنسان على هذه الكيفية المناسبة لهذه الغاية، وأدرك الحكمة من خلق وإيجاد الأمور الموصلة للخير من بعث الأنبياء وإنزال الكتب وما إلى ذلك، كما يدرك الحكمة من إيجاد الأمور الموصلة إلى الشر من خلق إبليس والشهوات والأهواء وما إلى ذلك وبهذا يتبين بطلان هذا القول.
القول الثاني: قول المعتزلة ومن وافقهم الذين قالوا إن هذا العالم إنما خلق لحكمة وعلة وهي حكمة وعلة تعود إلى المخلوق، وهذه الحكمة هي نفع الخلق والإحسان إليهم، هكذا قال المعتزلة وأحسنوا بإثبات الحكمة وأخطأوا خطأ فاحشاً بتحديد الحكمة وأنها تعود إلى المخلوق وأنها النفع والإحسان إليه، وبناءأً على هذا القول انحرفوا في نواح كثيرة من مسائل القدر حيث زعموا أن الله ما دام خلق الخلق لينفعهم فإنه يجب عليه أن يفعل بهم كل ما يوصلهم إلى هذه الغاية، فقالوا بوجوب الصلاح والأصلح على الله عزوجل وأتوا بالطامات في هذا الباب، وشرعوا لله طريقاً زعموا أنه يجب عليه أن يسلكه مع عباه من ناحية الصلاح والأصلح، ولتقرر هذا الأمر عندهم أنكروا عموم قدرة الله عزوجل، فزعموا أنه لا يقدر أن يهدي ضالاً ولا أن يضل مهتدياً، كما أنكروا عموم المشيئة وأن العبد هو الذي شاء الكفر أو الإيمان، ومشيئة الله لا تتعلق بهذا الأمر، وأنكروا عموم خلق الله لكل شيء، فقالوا إن العبد يخلق فعله، كما قرروا لأجل قولهم بهذه الغاية من الخلق قاعدة التحسين والتقبيح العقلي، فجعلوا كل ما يحسن في نظر العبد يحسن من الله عزوجل فيجب أن يفعله لأنه خلقه لينفعه، وكل ما يقبح في نظر العبد فإنه يقبح من الله فيجب أن لا يفعله لأنه خلقه لينفعه، ووقعوا بسبب هذا الانحراف في تشبيه فعل الله بفعل خلقه، إذ مدار التحسين والتقبيح عندهم على حسب الحال المشاهد من الإنسان، وهذا غاية في القبح والتحكم في أفعال الله عزوجل وكفى به انحرافاً وفساداً، كما أنه على القول بالتحسين والتقبيح العقليين عنهم أنكروا العفو عن المذنب في الآخرة أو إخراجه من النار بالشفاعة أو غيرها، لأن هذا في زعمهم إغراء بالمعصية قبيح لا يفعله الله عزوجل عندهم، وكل قول من هذه الأقوال يدل على انحرافهم في هذا الباب وفساد قولهم إذ الحق يجب أن ينسجم مع جميع لوازمه، وما يترتب عليه باطل فهو باطل.
وهذا القول من المعتزلة في الحكمة والتعليل وما أداهم إليه من الأقوال المخالفة لصريح الشرع هو الذي جعل الأشاعرة ومن تابعهم ينفون الحكمة عن اللهعزوجل، ويقابلون المعتزلة في كل نقطة من نقاط انحرافهم مقابلة الضد، فأنكروا التحسين والتقبيح العقليينن ولم ينزهوا الله عن فعل ولا أمر لعدم الحكمة والغاية في خلقه وأمره عندهم ولأن الجميع ملكه وفي تصرفه، ولو نظر كل فريق من هؤلاء إلى الشرع لدلهم إلى الحق الذي لا يلزم منه اللوازم الفاسدة المخالفة للعقل والشرع في كلا القولين.
القول الثالث: وهو قول أهل السنة الذين هم وسط في الأقوال فقالوا: بأن الله موصوف بانه حكيم فكل ما يصدر عنه جل وعلا إنما يصدر عن حكمة بالغة سواء في ذلك فعله أو أمره، وأن هذه الحكمة ترجع إليه جل وعلا، فهي صفة من صفات ذاته كما أقروا أن الخلق خلق لغاية ولم يخلق سدى ولا عبثاً وهذه الغاية هي عبادته، وأقروا بعموم قدرة الله على كل شيء ومشيئته النافذة في كل شيء وأنه الخالق لكل شيء، فعليه نزهوا الله عن إيجاب شريعة عليه يلزمه الالتزام بها ولم يوجبوا عليه إلا ما أوجبه هو جل وعلا على نفسه، كما أقروا له بالحكمة في كل فعل وأنه لم يأمر جل وعلا إلا بكل ما هو حسن ولم ينه إلا عن كل ما هو قبيح، كما أقروا بأنه المحمود في كل فعل وأمر، والأدلة على هذا القول ظاهرة بحمد الله في كل صغير وكبير من أمره وفعله.
وقد استقصى الأدلة الدالة على الحكمة في الخلق والأمر وأنه المحمود في كل حال، الإمام ابن القيم - رحمه الله - في كتابه: شفاء العليل في القضاء والقدر والحكمة والتعليل من ص ١٨٦ - ٢٠٦، ورد على النافين للحكمة بعد إيراد شبههم من ص ٢٠٦ - ٢٦٨، وانظر: مفتاح دار السعادة ١/ ١٨٧ - ٣٠٥، وانظر: الأقوال في الحكمة والتعليل في: مفتاح دار السعادة أيضاً ٢/ ٥٩ - ٦٢، والفتاوى لشيخ الإسلام ٨/ ٨١ - ١٥٨. وانظر قول المعتزلة في العدل والحكمة من الله وأنه يجب أن يترك القبيح ويفعل الحسن العقلي على وفق ما هو واقع من الإنسان: شرح الأصول الخمسة ص ٣٠١ - ٣١٣. انظر قول الأشاعرة ومن وافقهم في: المواقف للإيجي ص ٣٣١، المعتمد في أصول الدين للقاضي أبي يعلى ص ١٠٧، وانظر: لوامع الأنوار البهية ١/ ٢٨٠ - ٢٩٠.

<<  <  ج: ص:  >  >>