للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

٤٢ - فصل

ذكرت في الرسالة أن الله سبحانه أراد من العباد ما وقع منهم من خير وشر، وذهبت المعتزلة والقدرية إلى أن الله أراد منهم الخير ولم يرد منهم الشر وإنما المريد الشر (١) إبليس (٢) والدليل على صحة قولنا قول الله


(١) في - ح - (الشر منهم).
(٢) المعتزلة ينكرون صفة الإرادة لله، ويقولون: إن الله مريد بإرادة محدثة لا في محل وينفون أن تكون هذه الإرادة عامة لكل ما هو حادث من أفعال العباد، بل يجعلون الإرادة متعلقة بنوع واحد من أفعال العباد وهي الأفعال الواجبة والمندوبة فقط، أما ما عداها فمنها ما لا يريده ولا يكرهه كالمباحات، ومنها ما لا يريده البتة بل يكرهه وبسخطه وهي المعاصي والقبائح، فجعلوا الإرادة مستلزمة للأمر، والأمر دليل على الإرادة، وكل ما أراده الله أحبه ورضيه. انظر: شرح الأصول الخمسة ص (٤٤٠، ٤٥٧، ٤٥٨، المغني في العدل والتوحيد ٦/ ٢١٨.
فعلى هذا أنكر المعتزلة أن يكون ما يقع من العباد من المعاصي واقعاً بإرادة الله.
والحق في ذلك أن الله سبحانه موصوف بالإرادة، وأن الإرادة الواردة في القرآن الكريم على نوعين:
النوع الأول: الإرادة الكونية القدرية: وهي بمعنى المشيئة لا يخرج عنها شيء من أفعال العباد سواء كان طاعة أو معصية خيراً أو شراً وهي متعلقة بتقديره جل وعلا وخلقه وهي دليل كمال ربوبيته وسيادته ولا تستلزم الحب والرضا، فقد تكون مما يحب الله ويرضى كالطاعات الواقعة من عباد الله الصالحين، وقد تكون مما لا يحب ولا يرضى بل يسخط ويكره كالمعاصي والكفر ونحوها الواقعة من العباد، ومن هذا النوع قوله جل وعلا {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ}، وقوله تعالى: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} وقوله: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا}.
النوع الثاني: الإرادة الدينية الشرعية وهي المتعلقة بألوهيته وشرعه وهي مستلزمة لأمره والأمر دليل عليها وهي المتعلقة بحبه ورضاه.
والدليل عليها قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} وقوله: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ}.
فعلى هذا ما كان من أفعال العباد وهو طاعة وقربة إلى الله جل وعلا فإنه متعلق بنوعي الإرادة الكونية القدرية والدينية الشرعية، وما كان من أفعال العباد وهو معصية وكفر وفسق فهو متعلق بالإرادة الكونية القدرية، وليس متعلقاً بالإرادة الدينية الشرعية المستلزمة لأمره وحبه ورضاه، فإن الله لا يأمر بالفحشاء والمنكر ولا يرضى لعباده الكفر ولا يحب الفساد ولا يحب الخائنين". انظر: مجموع الفتاوى ٨/ ٤٧٥ - ٤٧٦، شفاء العليل ٢٨٠، شرح العقيدة الطحاوية ص ١١٥ - ١١٧، لوامع الأنوار البهية ١/ ٣٣٨ - ٣٣٩.
فهذا يرد على المعتزلة القائاين بأن كل ما أراه الله أمر به وكل ما أمر به فهو يحبه ويرضاه، فعليه لزمهم أن يكون في ملك الله ما لا يريده وهي المعاصي الواقعة من العباد، بل أكثر أفعال العباد على هذا واقعة بغير إرادة الله جل وعلا، وهذا فيه الطعن في ربوبية الله وسيادته على خلقه، كما أن قول السلف فيه الرد أيضاً على الجهمية ومن تبعهم من الأشاعرة في عدم تفريقهم بين الإرادة والحب والرضى، فجعلوا كل ما أراده الله فهو لا يكرهه، ويلزمهم على هذا أن الله لا يكره الكفر والفسق، وهذا باطل مخالف لنص القرآن. انظر: قول الجهمية والأشاعرة في مجموع الفتاوى ٨/ ٤٧٥، اللمع ص ٢٩، الإبانة ص ١٢٦، المواقف للأيجي ص ٣٢٠ - ٣٢٣. وقول المصنف هنا: "وإنما المريد منهم الشر إبليس" يعني أن على رأيهم أن الداعي والآمر بالشر هو إبليس، وهذا صحيح بهذا الاعتبار لأن الله لا يأمر بالفحشاء والمنكر وإنما الآمر بها إبليس. قال الله عزوجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ}؟.

<<  <  ج: ص:  >  >>