للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أجسامهم وثباتهم على القتال، وما روي أنهم كانوا على حالة قوية في الأجسام والثبات، ثم حدث عليه ضعف، بل كان (١) ثباتهم يزداد في القوة فيما أمروا، فدل على أن المراد بقوله {وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً} عن أن يقاتل الواحد أكثر من اثنين وقت افترض عليه أن يقاتل أكثر منهما (٢).

ويدل على صحة ما ذهبنا إليه أن الله أخبر بكتابه أن الله يأمر الخلق يوم القيامة بالسجود له، ولا يجعل للكافرين استطاعة على السجود له يومئذ، فقال سبحانه {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ} (٣)، فقوله: {عَنْ سَاقٍ} يعني عن يوم القيامة لهولها وشدتها، فيستعار الساق عن الشدة ولهذا يقال: كشفت الحرب عن ساق أي عن شدة (٤).

وفي الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله يأمر الخلق له بالسجود فيسجد له كل


(١) في الأصل (كانت) وما أثبت من - ح-.
(٢) ليس في الآية ما يدل على التكليف بما لا يطاق، لأن الله جل وعلا قال: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاّ مَا آتَاهَا} فهذا يدل على في طاقتهم هذا الأمر، ومع ذلك خفف عنهم فيما يعد رحمة منه وتفضلاً، ثم إن المطلوب منهم كان المقاتلة وعدم الفرار من القتال أمام عشرة أضعافهم وهذا في إمكانهم، إذ لا يحتاجون فيه إلا الصبر والثبات وعدم الفرار، أما النصر والغلبة فإنها مضمومة، وهي من الله عزوجل ولا تعنزى إلى قوتهم ولا إلى عتادهم وعددهم، وإنما متى صبروا وثبتوا نصرهم الله عزوجل على عدوهم.
(٣) سورة ن آية (٤٣).
(٤) الصحيح إثبات الساق صفة لله عزوجل، فإن الله سبحانه في هذه الآية قال: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاق} وساق في الآية نكرة غير معروفة، إلا أن الحديث الصحيح جاء بتعريفها وإضافتها إلى الخالق جل وعلا كما في حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - في حديث الرؤية الطويل قال: قلنا يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة؟، قال: "هل تضارون في رؤية الشمس والقمر إذا كان صحواً"، فذكر الحديث عن الناس يوم القيامة ثم قال: "حتى يبقى من كان يعبد الله من بر أو فاجر فيقال لهم: ما يحبسكم وقد ذهب الناس فيقولون فارقناهم ونحن أحوج منا إليه اليوم وإنا سمعنا منادياً ينادي ليلحق كل قوم بما كانوا يعبدون وإنما ننتظر ربنا قال: فيأتيهم الجبار في صورة غير صورته التي رأوه أول مرة فيها، فيقول: أنا ربكم، فيقولون أنت ربنا فلا يكلمه إلا الأنبياء فيقول: هل بينكم وبينه آية تعرفونه؟ فيقولون الساق، فيكشف عن ساقه فيسجد له كل مؤمن ويبقى من كان يسجد لله رياء وسمعة فيذهب كيما يسجد فيعود ظهره طبقاً واحداً … " الحديث، أخرجه خ. كتاب التوحيد (ب. قول الله تعالى {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} ٩/ ١٠٥، واللفظ له، وأخرجه م. كتاب الإيمان (ب. معرفة طريق الرؤية ١/ ١٦٨. وفي الصحيح للبخاري في كتاب التفسير ٦/ ١٣٢ عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يكشف ربنا عن ساقه فيسجد له كل مؤمن ومؤمنة ويبقى من كان يسجد في الدنيا رياء وسمعة، فيذهب كيما يسجد فيعود ظهره طبقاً واحداً".
فهذا التفسير الواضح في هذا الحديث الصحيح يجب المصير إليه في بيان المراد من قوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ}. وقد روى القاضي أبو يعلى في كتابه إبطال التأويلات ورقة (٤٣) بسنده عن إبراهيم، قال: كان ابن مسعود يقول: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} قال: يكشف الرحمن عن ساقه، ورواه أيضاً البيهقي في الأسماء والصفات ص ٤٢٨، واعلم أنه ثبت عن ابن عباس - رضي الله عنه - أنه قال في الآية: "إن المراد بها شدة القيامة وهولها وفسر الساق بالشدة"، روى ذلك عنه ابن جرير في تفسيره ٢٩/ ٣٨، والبيهقي في الأسماء والصفات ص ٤٣٦ إلا أن ابن عباس - رضي الله عنه - لم يسند هذا التقسير إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما أسنده كما في بعض الروايات إلى لغة العرب حيث تجعل كشف الساق كناية عن الشدة، وهذا مقبول في حالة عدم ورود أدلة أخرى شرعية تبين المراد، وقد جاءنا الحديث الصحيح يبين المراد بأن الله جل وعلا (يكشف عن ساقه يوم القيامة) فوجب المصير إليه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - "وقد طالعت التفاسير المنقولة عن الصحابة وما رووه من الحديث ووقفت من ذلك على ما شاء الله تعالى من الكتب الكبار والصغار أكثر من مائة تفسير فلم أجد إلى ساعتي هذه عن أحد من الصحابة أنه تأول شيئاً من آيات الصفات أو أحاديث الصفات بخلاف مقتضاها المفهوم المعروف إلا في مثل قوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاق} فروي عن ابن عباس وطائفة أن المراد به الشدة أن الله يكشف عن الشدة في الآخرة، وعن أبي سعيد وطائفة أنهم عدوها في الصفات للحديث الذي رواه أبو سعيد في الصحيحين، ولا ريب أن ظاهر القرآن لا يدل على أن هذه من الصفات فإنه قال: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} نكرة في الإثبات لم يضفها إلى الله، ولم يقل عن ساقه، فمع عدم التعريف بالإضافة لا يظهر أنه من الصفات إلا بدليل آخر". انتهى بتصرف. الفتاوى ٦/ ٣٩٤ - ٣٩٥، وانظر: شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري للشيخ الغنيمان ٢/ ١٢١.

<<  <  ج: ص:  >  >>