والصحيح أن هذه الأمور ينطبق عليها ما قرر بعدم وجوب شيء على الله عزوجل، إلا أن الله سبحانه وتعالى تفضلاً منه ورحمة فقد أوجب على نفسه في كتابه أموراً يفعلها وأموراً لا يفعلها مثل تحريم الظلم على نفسه جل وعلا بقوله في الحديث القدسي: "إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما" أخرجه م. كتاب البر والصلة ٤/ ١٩٩٤ من حدبث ابي ذر - رضي الله عنه -، وقوله تعالى: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلاّمٍ لِلْعَبِيدِ} فصلت آية (٤٦)، {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} الكهف آية (٤٩). فعليه نقول: إن الله لا يظلم بمعنى أنه لا يفعل الظلم مع قدرته عليه عدلاً وتكرماً منه سبحانه وتفضلاً. ومما أوجب سبحانه على نفسه: أنه يثيب المطيعين ولا يضيع إحسانهم كما في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ} البقرة: من الآية (١٤٣)، وقوله تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً} طه آية (١١٢)، وأنه جل وعلا لا يجازي الإنسان إلا بعلمه، ولا يحمله ما ليس من عمله وكسبه، وذلك في مثل قوله تعالى: {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى أَلاّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَأَنْ لَيْسَ لِلإنْسَانِ إِلاّ مَا سَعَى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى} النجم آية (٣٦ - ٤٠)، وأنه حرم الجنة على من مات مشركاً وأنه لا يغفر له بقوله: {مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ} المائدة آية (٤٨)، وأنه جل وعلا كتب على نفسه الرحمة فقال: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَة} الأنعام الآية (٥٤)، وأنه لا يعذب إلا من بعث إليه رسولاً في قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} الإسراء: من الآية (١٥). فهذه أمور قد أوجبها الله جل وعلا على نفسه منها ما هو تفضل ومنها ما هو عدل، وإيجابه على نفسه يدل على أنه لا يفعل إلا موجبه ولا يفعل خلاف موجبه فلا يظلم ولا يضيع عمل المحسن، ولا يضع عنه سيئات لم يعملها ولا يغفر للمشرك، فعلى هذا خلقه للخلق ابتداء تفضل وليس بواجب، وبعثه الرسل إليهم تفضل منه جل وعلا، وكذلك ما شرع لهم من الشرائع تفضلا منه ونعمة وهو غير واجب عليه. أما إثابة المطيعين فكما أنه تفضل منه سبحانه فإن الله لا يفعل خلافه لأنه أوجب على ذلك على نفسه سبحانه لا أن الخلق أوجبوه عليه، ولا أنه استحقاق للمطيعين كما زعم المعتزلة، لأن طاعتهم وقعت بتوفيق منه وهداية، ثم إنه أعطاهم من النعم ما لا يوفي حقه عليهم عبادتهم طوال حياتهم من ولادتهم إلى مماتهم. أما قول المصنف هنا (أنه لو لم يثب المطيعين وأثاب العاصين لم يكن ظالماً لهم) فهذا بالنسبة لمن نظر إلى أن الخلق وجميع ما في السموات والأرض ملك لله وتحت تصرفه، فعليه لو تصرف في ملكه بأي شكل فلا يقال عنه ظالم، لأن الظلم عند هؤلاء هو التصرف في ملك الغير بدون وجه حق، والخلق تحت ملكه وتصرفه فيهم واقع ضمن تصرف المالك في ملكه، وهو قول الأشاعرة ومن تبعهم، والصحيح أن هذا من الظلم الذي نفاه الله عزوجل عن نفسه وهو في الجزاء والحساب فلا يحمل الإنسان سيئات لم يعملها، ولا يضيع له أجر حسنات عملها يدل على هذا قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً} طه آية (١١٢)، {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ وَمَا رَبُّكَ بِظَلاّمٍ لِلْعَبِيدِ} فصلت الآية (٤٦)، فهذا يدل على أن عدم إثابة المطيعين من الظلم الذي حرمه الله على نفسه تفضلاً منه ورحمة منه فلا يفعله، فعليه لا يصح أن يقال إنه لو لم يثب المطيعين لم يكن ظالماً لهم، أما قوله "وأثاب العاصين لم يكن ظالماً" فهذا داخل تحت تفضل الله ورحمته بعباده، فقد يفعله وقد لا يفعله، فإن فعله فلا يقال إنه عنه ظلم لأن له أن يتفضل على من يشاء بترك عقوبته لأن عقوبة العاصي حق له جل وعلا فإن شاء عاقبه عدلاً وإن شاء تركه فضلاً، وهذا إنما هو في المعاصي دون الشرك، أما الشرك فإنه لا يغفره جل وعلا كما قال: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}. انظر: الفتاوى لشيخ الإسلام ١٨/ ١٣٧ - ١٤٨، مفتاح دار السعادة ٢/ ١٠٤ - ١١٣، لوامع الأنوار البهية ١/ ٣٢٠ - ٣٣٣.