وابتدأ هنا بإثبات أن الله عزوجل متكلم، وهو مذهب السلف، والذي قامت عليه الأدلة من الكتاب والسنة كما ستبين خلال عرض المصنف - رحمه الله - لهذه المسألة. ومسألة الكلام هي من أطول المسائل وأكثرها تشعباً وأوسعها اختلافاً، ولم يكن بين سلف الأمة من الصحابة والتابعين اختلاف في أن الله عزوجل متكلم، وأن هذا القرآن الكريم كلامه، حتى أظهر الجعد بن درهم إنكار ذلك وزعم أن الله لم يكلم موسى تكليماً، وذلك في أوائل المائة الثانية من الهجرة، وقتله على مقالته هذه خالد بن عبد الله القسري بواسط في العراق في عيد الأضحى، وذكر غير واحد من العلماء أن الجعد أخذ هذه المقالة عن بيان بن سمعان التميمي رأس الفرقة البيانية الذي ادعى النبوة وادعى أن روح الآية حلت به، وهو معدود في غلاة الروافض، وقتله خالد بن عبد الله القسري أيضاً وصلبه بعد المائة الأولى بالعراق، وبيان هذا أخذه مقالته عن طالوت ابن أخت لبيد بن أعصم الساحر الذي سحر النبي صلى الله عليه وسلم، وأخذ عن الجعد هذه المقالة جهم بن صفوان الترمذي، وأخذ بشر المريس عن الجهم بن صفوان، وأخذ أحمد بن أبي داود عن بشر المريسي. فهذه السلسلة تبين أصل مقالة إنكار الكلام ونفي الصفات، وهي أن المعتزلة أخذت عن الجهمية، والجهمية أخذت عن الجعد بن درهم، الذي أخذ عن اليهود. وقد تصدى علماء الإسلام لهذه المقالة منذ ظهورها وألفوا وصنفوا في الرد عليها وبيان زيغ أصحابها، وحذروا الناس منها، وبينوا أن الله عزوجل موصوف بالصفات الكاملة، وأن كل صفة وصف الله بها نفسه ووصفه بها رسوله صلى الله عليه وسلم هي ثابتة لله على الوجه الذي يليق بجلاله وعظمته لا يشبه في شيء من صفاته المخلوق ولا المخلوق يشبهه جل وعلا، ومن هذه الصفات صفة الكلام التي أنكرها الجهمية والمعتزلة، وحتى الأشعربة لم يثبتوا هذه الصفة وإنما أثبتوا كلاماً ليس بكلام، وما أثبتوه مجرد دعوى لا دليل عليه ألبتة من القرآن ولا من السنة، وإنما حاولوا أن يوافقوا ما عند السلف وخافوا الشناعة عليهم بإنكار الكلام فقالوا بالكلام النفسي. وسيأتي تفصيل المصنف لمقالتهم والرد عليهم، وقد ذكر شارح الطحاوية اختلاف الناس في مسألة الكلام وذكر في هذا تسعة أقوال فمن أراد الاستزادة فليراجعها. انظر: الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية ١٢/ ٢٦، البداية والنهاية لابن كثير ٩/ ٣٩٤، الفرق بين الفرق ص ٢٣٦ - ٢٣٧، ميزان الاعتدال ١/ ٣٥٧، شرح الطحاوية ص ١٧٠ - ١٧٩.