للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

١١٩ - فصل

صارت المعارف مختلفة على حسب ما وجدنا السبيل إليها (١)، فعندنا أن معرفة الله سبحانه حصلت للمخلوقين مكتسبة (٢)، والعلم المتكسب هو: كل علم وقع بعد نظر واستدلال.


(١) هذا الفصل لم يتبين لي وجه اقحامه في هذا المكان مع أنه من كلام أهل الكلام الذي يختلف التعبير فيه وقد يكون المراد صواباً إلا أن العبارة لا تفيده.
وقول المصنف "صارت المعارف مختلفة على حسب ما وجدنا السبيل إليها" يقصد به أن من المعارف ما يكون ضرورياً وهو ما يعرفه الباقلاني في التمهيد ص ٢٦ بأنه ما يلزم النفس لزوماً لا يمكن الخروج عنه ولا الانفكاك عنه ولا الشك فيه، كمعرفة الانسان لوجوده وفنائه وبوجود الأرض والسماء وما إلى ذلك.
ومعرفة مكتسبة وهي: ما يتم تحصيله إما بخبر أو دليل أو تجربة ونحو ذلك من طرق تحصيل المعارف، وذكر ابن حزم في الفصل ٥/ ١٠٨ أن ما كان من المعارف ثبت ببرهان فمعرفة النفس به اضطرارية وأن الاكتساب هو طلب الدليل" - انتهى.
وقول ابن حزم هنا اظهر وأوضح من ناحية وصفه لما ثبت من المعارف بالبرهان بأنه ضروري، إلا أن هذا النوع من المعارف يصح وصفه بأنه مكتسب على التعريف السابق، والصحيح أن جميع العلوم مكتسبة إلا معرفة الخالق جل وعلا المعرفة الفطرية كما سيأتي بيانه.
أما سائر المعارف الأخرى فإنها مكتسبة بدليل قوله عزوجل: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأسْمَاءَ كُلَّهَا} البقرة: من آية (٣١) وكذلك قوله: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً} النحل من آية (٧٨) إلا أن من العلوم ما يكون بدهي ظاهر لا يحتاج إلى كدّ ذهن واستدلال كفوقية السماء ووجود الإنسان وفنائه وحاجته وما إلى ذلك، ومنها ما يحتاج إلى دليل وبرهان حتى إذا استقر في النفوس صار علما ضروريا لا ينفك عن النفس ولا يقع فيه الشك إلا من باب الوسوسة الشيطانية.
(٢) قول المصنف هنا بأن معرفة الله مكتسبة هو قول المتكلمين ومن أخذ بقولهم فقد ذكر شيخ الإسلام أن كثيراً من أهل الكلام من المعتزلة والأشعرية ومن وافقهم من الطوائف من أصحاب أحمد ومالك والشافعي وأبو حنيفة وغيرهم ذهبوا إلى أن معرفة الله لا تحصل إلا بالنظر. انظر: درء تعارض العقل والنقل ٧/ ٣٥٣، والدليل الشرعي على خلاف قولهم حيث دل على أن معرفة الله فطر عليها الخلق وكذلك الإقرار بربوبيته. قال عزوجل: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} الأعراف آية (١٧٢)، وكذلك حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه" قال أبو هريرة: "اقرؤوا إن شئتم قوله عزوجل: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} الروم آية (٣٠). أخرجه خ. الجنائز ٢/ ٨٧، م. كتاب القدر ٤/ ٢٠٤٧ وحديث عياض بن حمار - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الله عز وجل: "إني خلقت عبادي حنفاء كلهم وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي". أخرجه م. صفة الجنة ٤/ ٢١٩٧ فهذا ظاهر منه أن القلوب مفطورة على الإقرار بالخالق ومعرفته، وأن الانحراف عن هذه المعرفة والإيمان تكون من قبل الأبوين والمجتمع أو بسبب الغفلة والشياطين، إلا أن هذه المعرفة ليست معرفة كافية وافية فتحتاج إلى معرفة مكتسبة وهي ما يحصله الإنسان بتعلم دين الله عز وجل والنظر في آياته الشرعية والكونية فيحصل له بذلك معرفة جديدة تنمو وتزداد كلما ازداد نظراً وعلما قال عزوجل: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} فاطر آية (٢٨). فالعلم بالله ومعرفته يزيد من خشيته ومراقبته جل وعلا. فهذا يدل على أن معرفة الله منها ما هو فطري ومنها ما هو مكتسب.

<<  <  ج: ص:  >  >>