للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

٩٧ - فصل

إذا تقرر ما ذكرنا أن القرآن غير مخلوق، وأن القرآن عند أصحاب الحديث هو الكتاب الذي أنزله الله تعالى على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وهو القرآن العربي السور والآيات المتلو باللسان والمسموع بالآذان المعقول بالأذهان المحفوظ في الصدور المكتوب بالمصاحف بالسطور له أول وآخر وبعض، فمن قال بخلقه فهو كافر كفراً يخرجه عن الملة، لما تقدم ذكره في الفصل قبل هذا، وقد وافقنا الأشعرية على أن القرآن غير مخلوق، ومن قال بخلقه فهو كافر، وردوا على قوله المعتزلة والقدرية إنه مخلوق (١).

إلا أن الأشعرية قالوا: كلام الله الحقيقي هو معنى قائم في نفسه لا يفارقه، لا يدخل كلامه النظم والتأليف والتعاقب، ولا يكون بحرف وصوت ولا يتكلم الله بالعربية ولا بغيرها من اللغات، وليس له أول ولا آخر ولا بعض، بل هو شيء واحد لم ينزله الله على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ولا على أحد من الأنبياء، ولا يتلى ولا يكتب ولم يسمعه أحد إلا موسى عليه السلام (٢)، وهذه السور والآيات عبارة وحكاية عن كلام الله وتسمى قرآناً،


(١) انظر رد الأشعرية على القائلين بخلق القرآن في التمهيد للباقلاني ص ٢٦٨ - ٢٨٤. أما المتأخرون منهم فقد تقدم تلميح البعض وتصريح البعض بخلق القرآن. انظر: ما تقدم ص ٥٤٤.
(٢) اختلف الأشاعرة في موسى عليه السلام هل سمع كلام الله أم لا على أقوال:
القول الأول: أن موسى عليه السلام سمع كلام الله وبه قال الغزالي وذكره شارح جوهرة التوحيد، إلا أن الإثبات بالنسبة لهم إثباتاً لا يستقيم مع زعمهم أن الله لا يتكلم بحرف وصوت، وأن كلام الله معنى قائم في نفس الله عزوجل، لهذا حين أراد الغزالي في الاقتصاد في الاعتقاد ص ٧٨ إثبات السماع مع الكلام النفسي أتى بكلام في غاية السقوط والرداءة وسيورد المصنف كلامه فيما يأتي ويرد عليه ولعل المصنف عزا إلى الأشاعرة القول بسماع موسى للكلام لقول الغزالي بذلك، أما شارح جوهرة التوحيد فإنه زعم أن الله أزال الحجاب وأسمع موسى كلامه القديم ثم أعاد الحجاب، ثم زعم أنه ليس المراد أنه تعالى يبتدئ كلاماً ثم يسكت، لأنه لم يزل متكلماً أزلاً وأبداً. وهذا كلام باطل يرده القرآن الكريم فقد قال عزوجل: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} … الآيات إلى قوله: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى قَالَ خُذْهَا وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الأولَى وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى} الآيات. طه آية (١١ - ٢١٩، فقد ذكر الله عزوجل الكلام الذي كلم به موسى وما قال موسى لله وما رد الله عليه، فهذا كله كلام وفيه سكت. وادعاء أن الله أزال الحجاب حتى سمع الكلام القديم ادعاء فارغ لا دليل عليه لا من القول ولا من السنة ومخالف لقوله عزوجل: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} الشورى آية (٥١).
القول الثاني: أن موسى لم يسمع كلام الله عزوجل وكذلك جبريل عليه السلام وإنما خلق الله لهما إدراكاً فهما به كلام الله فلهذا - على زعم هؤلاء سمي موسى عليه السلام كليم الله - وعندهم أن جبريل عليه السلام نزل بهذا الذي فهمه على النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وبلغ النبي محمد صلى الله عليه وسلم هذا المفهوم للناس قال بهذا الجويني في الإرشاد ص ١٢٩ - ١٣٠، والآمدي في غاية المرام. ص ١١٠ - ١١١.
وهذا الكلام باطل ويكفي في بطلانه قوله عزوجل {فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى} في الآيات المتقدمة، وسيأتي رد المصنف على قولهم بالكلام النفسي.

<<  <  ج: ص:  >  >>