للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

٨١ - فصل

ومن الأدلة المذكورة لنا في الرسالة على أن، العباد غير ممكنين ولا مخيرين في أفعالهم (١) لا كما قالت (٢) القدرية (٣) قوله تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} (٤).


(١) المصنف - رحمه الله - أراد في هذا الفصل الرد على القدرية الذين يزعمون أن العبد له قدرة وإرادة مستقلة ليس لها تعلق بإرادة الله وقدرته، لأنه قد تقدم كلامه في فصل رقم (٣٣) في إثبات قدرة العبد، وبيان الفرق بين قول السلف المثبتين لذلك، وبين قول الجبرية الذين ينكرون أن يكون للعبد فعل، والمسلم لا يسعه إنكار قدرة العبد وإرادته فإنها ظاهرة من أدلة الشرع والعقل وقد تقدمت الأدلة على ذلك ص ٥١، بل الأوامر والنواهي الشرعية مرتبطة بالإرادة والمشيئة والجزاء على الأعمال مترتب على ذلك، فمتى فقد الإنسان إرادته واختياره بحيث صار مكرهاً أو مضطراَ فلا يعتبر مؤاخذاً على فعله، إلا أن يكون سكراناً فهذا يؤاخذ لأنه هو الذي اكتسب هذا وفعله بنفسه، ومع هذا فإن السلف - رحمهم الله - أثبتوا ما ذكره الله في كتابه وذكره نبيه محمد صلى الله علي وسلم في الأحاديث الصحيحة من أن العبد له مشيئة تابعة لمشيئة الله وإرادته، وأن أفعاله هي خلق لله عزوجل، وهذا الذي تنكره المعتزلة القدرية. فأورد المصنف - رحمه الله - هذا الفصل في الرد عليهم، فقوله: "إن العباد غير ممكنين ولا مخيرين في أفعالهم" يقصد بذلك على الاستقلال بدون أن يكون تمكين واختيار من الله عزوجل.
(٢) في النسختين (كما قال القدرية) بدون (لا) وهو خطأ لا يصخ الكلام إلا بها كما أثبت.
(٣) في - ح- (القدرية والزيدية).
(٤) القصص آية (٦٨)، واختلف المفسرون - رحمهم الله - في بيان المعنى من هذه الآية: ابن جرير - رحمه الله - يرى أن المراد بالخيرة هنا هو الاصطفاء والاختيار، وذكر أن (ما) في {مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} موصولة. والمعنى وربك يختار يخلق ما يشاء أن يخلقه ويختار للهداية والعمل الصالح من خلقه ما هو في سابق علمه أنه من خبرتهم، وكذلك قال القرطبي ونقله عن ابن عباس ويحيى بن سلام والنقاش، وكذلك قال ابن القيم إلا أنهم خالفوا الطبري - رحمه الله - في أن (ما) ليست موصولة بل هي نافية ويكون المعتى بذلك أن الله يخلق ما يشاء ويصطفي منهم من شاء لطاعته ونبوته ولنصرة دينه وليس الاختيار إلى مشركي قريش، وهي على معنى قوله تعالى: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيم أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ} الزخرف آية (٣١)، أما ابن كثير - رحمه الله - فيرى أن (الخيرة) هنا بمعنى الاختيار والمشيئة، وأن الله منفرد بالخلق والاختيار وهي كقوله تعالى {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِم} وهو الموافق لكلام المصنف - رحمه الله - هنا، إلا أن دلالتها على القول الأول أوضح وأظهر، وهو أن المراد بها الاصطفاء والاختيار لأن أول الآية وهو قوله تعالى {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} معناه أن الله المنفرد بالخلق وهو المنفرد بالاصطفاء، فيكون الكلام بعدها من باب تأكيد اختصاص الله بذلك، ونفي أن يكون للمشركين دخل في الاصطفاء والاختيار، كما أن آية الأحزاب {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} ليس المراد بها نفي المشيئة والاختيار، إنما المراد منها نفي أن يكون للمؤمنين اختيار حيال شرع الله وقضائه، بل هم ملزمون بالأخذ به وعدم استبداله بغيره، فإن فعلوا ذلك وبدلوا شرع الله وأمره فإنهم يكونون مخالفين وعاصين لله ورسوله. وهذا ظاهر في الآية أيضاً من وصف المخاطبين بصفة الإيمان، ومن سبب نزول الآية في قصة زينب بنت جحش - رضي الله عنها - في زواجها من زيد بن حارثة - رضي الله عنه -. انظر: تفسير الطبري ٢٠/ ١٠٠، تفسير ابن كثير ٣/ ٣٩٧، تفسير القرطبي ١٣/ ٣٠٥، زاد المعاد ١/ ٣٩.

<<  <  ج: ص:  >  >>