فإن قوله: "وقد وجدنا الزنا قبل ورود الشرع لا يسمى قبيحاً إلا بعد ورود الشرع بتحريمه وتقبيحه". هذا كلام باطل ولا يمكن في الواقع إثبات أن الزنا والقتل والظلم والخيانة واللواط وسائر الفواحش كانت قبل ورود الشرع حسنة أو أنها لم تكن قبيحة، بل أدنى نظر لوضع الجاهلية قبل الإسلام يبين فساد هذا القول، وهل كانت البنات يوأدن إلا خوف العار الذي تجلبه على أهلها وقبيلتها بزناها أو سبيها وهل كانت الحروب الدائرة بين العرب إلا أثر من أثار رفع الظلم أو الانتقام والثأر لدم أو رفع عار، وقد خاف أبو سفيان في سؤال هرقل له عن النبي - صلى الله عليه وسلم- أن يؤثر عنه كذبة مع رغبته في التشنيع على النبي - صلى الله عليه وسلم- وإظهاره بمظهر المفسد لا المصلح، وقد نص الله جل وعلا على أن النبي - صلى الله عليه وسلم- يحل لنا الطيبات ويحرم علينا الخبائث في قوله تعالى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ} فهذا الوصف للأمور التي أحلها الإسلام والتي حرمها ثابت لها قبل الشرع واكتفي بالإجمال فيها مع أنه يندرج تحتها أصناف كثيرة، ولو كان كما زعموا لكان الشرع قد أتى بالحرج والتضييق على الناس، إذ أن الأمور متساوية قبل مجيئه ثم ضيقها وفصل فيها فجعل طيبات وخبائث وأحل الطيبات وحرم الخبائث، وهذا خلاف الحق فإن الله نص على رفع الحرج وأنه يضع عنا الأصر والأغلال التي كانت على الذين من قبلنا. وقول الله جل وعلا في الزنا {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً} هذا الوصف ظاهر فيه أنه لازم لهذه الفعلة وأنه العلة في تحريمه، حيث لم يذكر علة أخرى لتحريمه أما وجه فحشه وفساده وأضراره فأكثر من أن تحصى. أما قول المصنف (وكذلك تزويج الأمهات وذوات المحارم غير قبيح في العقل … إلخ) فهذا الكلام في الغاية من الفساد بل هو قبيح في العقل إلى الغاية، حتى أن الإنسان ينفرد من تصوره فضلاً عن أن يقول عنه حسن أو ليس قبيحاً. ولا شك أن هناك بعض الأمور لا يظهر للناس خبثها وفسادها أو مصلحتها وفائدتها إلا بالشرع كالجمع بين الأختين والأخوات من الرضاعة والربائب في النكاح ونحو ذلك، فهذه قد تخفى على الناس المصلحة وأوجه الفساد في فعلها وينبه الشارع إليها وهذا لقصور العقل عن الإحاطة والإدراك لجميع الأمور، أما الخبائث الظاهرة والقبائح المعروفة فهذه لا يختلف إثنان من الناس في قبحها وفسادها، وأن الشرع جاء بما يوافق فطرة الإنسان وجبلته، وهذا دليل من الدلائل الدالة على صدق النبي - صلى الله عليه وسلم- فيما دعى إليه، أما قول المصنف: "ويوجد الزنا من المجنون ولا يعد قبيحاً" فإن الزنا من المجنون وغيره قبيح إلا أنه لا تلزمه العقوبة عليه لأنه مسلوب العقل والتمييز ومما يدل على قباحته أن الناس لا يتركونه لو اطلعوا عليه، بل يمنعونه لقباحته وإنما لا يعاقبونه بخلاف المدرك المميز فإنه مع المنع يعاقب. أما قوله: "ويقبح شكر المنعم .. إلخ" فالشكر حسن كما أن كفر المنعم قبيح بالذات إلا أنه صار هنا غير قبيح لأوصاف وتقييدات أخرى دخلت عليه، فتغير الحكم حسب الوصف، ألا ترى أن القتل قبيح والكذب قبيح إلا أنه إذا كان القتل في سبيل الله يتغير الحكم وكذلك الكذب إذا كان في الإصلاح فإنه لا يكون كذباً قبيحاً فالأوصاف والتقييدات تغير الحكم. حسب الوصف أو الوضع، أما الفعل فيحد ذاته فإنه موصوف بالحسن أو القبح لذاته وقد بحث ابن القيم - رحمه الله - هذه المسألة وأورد ادلة النفاة للحسن والقبح العقلي ورد عليها وأطال وأفاد في كتابه مفتاح دار السعادة ٢/ ٢٣ - ٤٢.