للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والله سبحانه لا حاجة به (١) إلى ما ملك من العباد وأموالهم، فبطل أن يجريا في التصرف مجرى واحداً.

ويقال لهذا المخالف: أجريت الحكم من الله والحكمة من الحكيم منا مجرى واحداً، وجمعت بينهما في الحكم من غير علة تقتضي الجمع بينهما، وهذا لا يصح وهذا دأب القدرية في أصولهم الفاسدة، لأنهم شبهوا أفعال المخلوقين وأقوالهم بالله بكونهما غير مخلوقين، وقد قال الله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}، وهذا يقتضي أنه لا يشبهه شيء بذاته ولا بصفاته، ثم يقال له: حكمة الحكيم منا تقع (٢) عن تجربة وعن مشاورة وعن تعلم، ولا يسمى حكيماً إلا بعد أن وجدت منه الحكمة، والله سبحانه حكيم لذاته لا عن تجربة ولا عن مشاورة، بل هو موصوف بالحكمة قبل وجود الحكمة منه، وقبل وجود الواصف له بالحكمة.

وأما استدلال المخالف: بمن بنى داراً ثم أمر بإحراقها.

فنقول له: لو كان هذا الوصف جارياً على حكم الله لما حسن منه أن يخلق ابن آدم وصوره بأحسن من تصوير البناء في الدار، حتى إذا استكمل بنيانه خرب بناءه فيه وأماته، وقد يخلق الله ابن آدم في بطن أمه، فقبل أن يكمل خلقه يخرجه من بطن أمه، وقد يخرجه من بطن أمه كامل الخلق ميتاً، وقد يحييه المدة القريبة ثم يميته (٣)، والحكيم منا لو ابتدأ بناء دار فعمر


(١) في - ح- (له).
(٢) في الأصل (الحكمة الحكيم متى تقع) وما أثبت من - ح- وهو الصواب لاستقامة العبارة.
(٣) هذا القول من المصنف راجع إلى نفي الحكمة عن الله عزوجل في فعله وأمره، وما ذكر هنا من المثال على إماتة الجنين وهو في بطن أمه وغيره لا ينفي أن يكون لله في ذلك الحكمة البالغة التي يظهر منها بعض الأوجه ويخفى على الإنسان فيها أوجه كثيرة، فمن هذه الأوجه في هذا الأمر بالنسبة لمن لم ينفخ فيه الروح هو إجراء السنة الكونية في الخلق بالتقاء ماء الرجل والمرأة وزوال الأسباب المانعة من الخلق فيتخلق الجنين ويكون ممن لم يقض الله عزوجل أن ينفخ فيه الروح فلا يحيا ويخرج ميتاً، وفي ذلك حكمة بالغة لمن عقلها، كما أن الأم تبتلى بالحمل ومتاعبه، فإن كانت مسلمة أجرت على هذا البلاء والمشقة التي تلحقها بسبب الحمل، وإن كانت غير ذلك لم تؤجر على ذلك في الآخرةن وقد تؤجر في الدنيا وقد يكون هناك حِكَم أخرى بهذا من ابتلاء الأبوين بالسراء والضراء وما يترتب على ذلك من الجزاء والعقاب، أما إن نفخ فيه الروح ثم مات في البطن أو مات بعد الخروج فإن ذلك لا شك لحكمة. ومن أوجه الحكمة ابتلاء الأبوين بالسراء أولاً بفرحهما بهذا الجنين ثم ابتلاؤهما بالضراء بسبب موت ابنهما، وابتلاء أمه بالحمل وما تبعه من مشقة وابتلاؤها بالوضع وما يترتب عليه من آلام وأوجاع في أثنائه وبعده، ولله في ذلك أبلغ الحكمة كما أنه سيكون نافعاً لوالديه إذا كانا مسلمين في الآخرة بشفاعته لهما، فالله جل وعلا له الحكمة في كل أمر وفعل وقد تظهر وقد لا تظهر، والغالب أنه يظهر منها للعباد أوجه تزيد المؤمن إيماناً أما الكافر فلا ينظر ولو نظر لم ينتفع وتكون عليه حجة.

<<  <  ج: ص:  >  >>