للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

قال رحمه الله بعدها (وكُلُّ دَعْوى النُّبوةِ بَعدَهُ فَغَيٌّ وَهَوى، وَهُو المبعوثُ إلى عَامَّةِ الجِنِّ وكَافَّة الوَرَى بالحقِّ والهدى، وبالنُّور والضِّياء)


وهذا فيه تقرير أنًّ كل دعوى للنبوة بعده صلى الله عليه وسلم فهي ضلال وكذب كما قال صلى الله عليه وسلم في حديث ثوبان (وَإِنّهُ سَيَكُونُ بعدي كَذّابُونَ ثَلاَثُونَ كُلّهُمْ يَزْعُمُ أَنّهُ نَبِيّ، وإنه لا نَبِيّ بَعْدِي) (١) فكل دعوى للنبوة كذب ولا شك؛ للإجماع المنعقد على ختم النبوة بمحمد صلى الله عليه وسلم كما ذكرت لك من قبل.
قوله (وَهَوى) يعني أنها ناشئة عن الهوى وليس ثَمَّ شبهة فيها، يعني من ادَّعَى النبوة فلا شبهة له، وإنما هي هوىً مُجَرَّدْ فلن ينزل عليه وحي ولن يكون معه معجزات -معجزات نبوة من عند الله- وإنما هي هوى، وقد يُسَخِّر الشياطين لنفسه فتعينه ببعض الخوارق إلى آخر ما ذكرنا في البحث السابق في الدرس الماضي.
(دَعْوى النُّبوةِ بَعدَهُ -صلى الله عليه وسلم- فَغَيٌّ وَهَوى) يعني وكفر.
والذي يَدَّعِي أَنَّهُ نبي أو أنه يُوحَى إليه أو أنه رسول فإنه كافر يجب قتله.
وهل يستتاب فتقبل توبته إن تاب؟
هذا مبني على خلاف العلماء في قبول توبة الزنديق.
والذي يُرَجَّحُ في هذا أنه لا تُقْبَلُ توبته ظاهراً، فإن كان صادقاً في الباطن فإنَّ الله - عز وجل - يقبل توبته، لكن ظاهراَ لا تُقْبَلُ توبته بل يجب قتله.
وهذا هو الراجح وهو الصحيح، فيُقْتَلُ لما ادَّعَاهُ من النبوة ولو قال إني تبت ظاهراَ.
وذلك لأنه قد يَدَّعِي ثانٍ وثالث ورابع وخامس كل يَدَّعِي النبوة والرسالة ثم يقول: تبتُ فيكون في ذلك خلل في الأمة.
فإذاً الزنديق الذي يُظْهِرُ الكفر، يسب الله - عز وجل - أو يسب رسوله - صلى الله عليه وسلم - أو يَدَّعِي النبوة أو أشباه هذه الأشياء أو يَدَّعِي الوحي، فهذا يُقْتَلُ على كل حال ولا تقبل توبته.

الجملة الأخيرة قال رحمه الله (وَهُو المبعوثُ إلى عَامَّةِ الجِنِّ وكَافَّة الوَرَى بالحقِّ والهدى، وبالنُّور والضِّياء)
قوله (وَهُو المبعوثُ إلى عَامَّةِ الجِنِّ وكَافَّة الوَرَى) يعني أنه صلى الله عليه وسلم هو المبعوث إلى الجن والإنس أجمعين.
وبعثته صلى الله عليه وسلم للإنس والجن جميعاً ذَكَرَ عدد من أهل العلم الإجماع عليها، فنُقل عن ابن عبد البر وعن ابن حزم في [الفِصَل] أنهم ذكروا الإجماع على عموم بعثة النبي صلى الله عليه وسلم للجن والإنس، وذكرها تقي الدين السُبْكِي أيضا في رسالة خاصة في عموم رسالته صلى الله عليه وسلم.
والدليل على ذلك - يعني على عموم بعثته - الدليل على قول المؤلف (وَهُو المبعوثُ إلى عَامَّةِ الجِنِّ وكَافَّة الوَرَى) أدلة كثيرة من القرآن ومن السنة:
فمن القرآن:
١ - الدليل الأول:
قوله - عز وجل - {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام:١٩] ، والإنذار بلغ الجن كما في آيات أخر، فإذاً هو نذير للجن وللإنس.
٢ - الدليل الثاني:
قوله - عز وجل - {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان:١] ، والعالَمُون اسم لكل ما سوى الله - عز وجل -، وخرج من ذلك الملائكة على الصحيح كما سيأتي، فيكون من العام المخصوص، والعام المخصوص دالّ على ما بقي بعد التخصيص كما هو معلوم، فيكون كل الجن والإنس داخلين في لفظ العالمين ولم يُستثنوا ولم يخرجهم دليل فيبقون داخلين في عموم النِّذارة.
وهذا الدليل أعْتُرِضَ عليه بأن قوله - عز وجل - {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} لأنَّ هذا هو القرآن وليس هو بمحمد صلى الله عليه وسلم، وهذا وإنْ كان وجها لاحتمال رجوع الضمير في قوله (لِيَكُونَ) للقرآن في قوله في أوله (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ- يعني القرآن- لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا) فهذا الوجه وإن كان محتملاً؛ لكنه خلاف الأَولَى، والأَولَى عند أهل العربية أَنَّ الضمير يرجع على أقرب مذكور وهو قوله {عَلَى عَبْدِهِ} ، (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ -عبدُه- لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا) .
٣ - الدليل الثالث:
قوله - عز وجل - في سورة الأحقاف {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنْ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (٢٩) قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى} [الأحقاف:٢٩-٣٠] ، إلى آخر الآيات.
٤ - الدليل الرابع:
قوله - عز وجل - {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن] يعني للجن وللإنس.
٥ - الدليل الخامس:
قوله - عز وجل - {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (١) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ} [الجن:١-٢] ، وبعثة محمد صلى الله عليه وسلم إلى الجن والإنس جميعاً دلَّت عليها هذه الأدلة.
قال بعض العلماء إنها في القوة وفي عدم الاعتراض ممن خالف مُرَتَّبَة في قوتها بحسب ترتيب المصحف، فأقواها آية الأنعام، ثم آية الفرقان، ثم الأحقاف ثم الرحمن ثم آية الجن، وهذا وجيه.
والأدلة من السنة أيضاً على عموم بعثته صلى الله عليه وسلم للجن والإنس كثيرة معروفة، منها:
قوله صلى الله عليه وسلم (كان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبُعِثت للناس كافة) (٢) على لغة من يُدخل الجن في لفظ الناس، وسيأتي زيادة بيان لذلك.
وثبت أيضاً في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال (بعثت للأحمر والأبيض) (٣) قال بعض العلماء يدخل في قوله الأحمر الجن لأنهم مخلوقون من نار، والنار صائرةٌ إلى الحمرة أو لونها مائل إلى الحمرة.
وغير ذلك من الأدلة التي تدل على عموم بعثته صلى الله عليه وسلم للجن والإنس.
أما عموم بعثته صلى الله عليه وسلم للإنس جميعاً، للناس جميعاً فثَمَّ آيات كثيرة.
إذا تبين ذلك في معنى قول المصنف وفي دليله، وأنَّ هذه المسألة ذَكَرَ عليها غير واحدٍ الإجماع فثمَّ في هذه الجملة مسائل:

<<  <   >  >>