[المسألة الرابعة] :
أقوال أهل البدع نخصّ منها قول المعتزلة وقول الأشاعرة، أما الأقوال الأُخَرْ الجهمية والفلاسفة هذه نطويها.
١ - قول المعتزلة مشهور وهو أنَّ القرآن مخلوق:
استدلوا بدليل عقلي -كما ذكرنا-، وهو أنه لو أُثْبِتَ الكلام وأن الكلام يُسْمَعْ فمعنى ذلك أنَّ الرب - عز وجل - جسم؛ لأنَّ الكلام لا يصدر إلا بِتَغَيُّر وهذا التغير إذا حلّ في شيء فإنه يدل على أنه جسم، على الذي ذكرنا لك من قولهم.
وهذا القول يدلهم على أنَّ الرب - عز وجل - يجب أن يُنَزَّهَ على جميع المظاهر الجسمية بأنواعها لأنَّ وصفه - عز وجل - بأنه جسم كفر.
وهذا القول يُرَدُّ عليه من جهتين:
@ الرد الأول:
أنَّ ذِكْرْ صفة الكلام لله - عز وجل - وارتباط الجسمية بها، هذا ليس بصحيح؛ وذلك أنّ المقدمة التي بُنِيَ عليها هذا القول هي البرهان بما سموه حلول الأعراض في الأجسام.
وهذا البرهان لم يدل عليه القرآن ولا السنة؛ بل دلّ القرآن والسنة على بطلانه، وذلك من جهة أنَّ الجسم موجود بأعراضه، وأنه إذا كان العَرَضُ يحِلُّ في الجسم فدل على أنَّ الجسم غَيْرُ مُخْتَارْ لحلوله.
لاحظ معي، إذا كان الجسم يحل فيه العرض، والجسم لم يختر حُلُولْ العَرَضِ فيه فَدَلَّ على أنه محتاج، لا ينطبق على الصورة التي فيها الكلام.
لأنّ من قال إنّّ القرآن كلام الله تكلّم به، فلو قيل إنه عرض فيقال اتصافه به كان بمشيئته وقدرته واختياره ـ، فخالف من هذه الجهة البرهان.
فدل:
- أولاً: على أنَّ البرهان في نفسه غير صحيح على هذه المسألة - يعني تطبيق البرهان غير صحيح في مسألة الكلام-.
- ثانياً: دَلَّ على أنهم حينما أصّلوا البرهان لم يطبقوه على وجه الصواب في الصفات فجعلوا الجِسْمِيَّةَ والعَرَضِيَّة متلازمة دائما مع الحاجة، وهذا فيه نظر كما ذكرت لك.
@ الرد الثاني:
أنَّ النصوص دَلَّت على أَنَّ القرآن كلام الله - عز وجل -، وعلى أَنَّ الله يتكلم، وعلى أَنَّ هذا أُكِّدَّ بمؤكدات، ومجموع هذه النصوص، إذا أريد تأويلها فإنه:
- أولاً: لا يستقيم في كل المواضع.
- ثانياً: أنه يلزم منه نفي الصفات التي وصف بها المعتزلة رب العالمين.
* أما الأول: فلا يستقيم في كل موضع، فمثل ما قالوا في قوله {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} ، قالوا إنَّ معناه {كَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} بأنّ معنى كلم الله موسى يعني أنه سَمِعَ كلامه المخلوق في الشجرة، وهذا السماع أُكِّدَّ في حق موسى لأنه سمع كلاماً تكليماً.
يعني أنَّ التكليم ليس تأكيداً للفعل الذي بدا من الله - عز وجل - ولكنه لإحساس موسى بما سمع، وقال بعض الناس في هذا {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} يعني جَرَّحَهُ بأظافير الحكمة تجريحا، أخذوه من كَلَّمَ يعني جَرَّحَ.
وقد جاء بعض المعتزلة إلى أبي عمر بن العلاء -وهو أحد القُرَّاء الذين جعلوا قراءتهم معتمدة على النحو- فقال له في هذا الموطن: اقرأ (وَكَلَّمَ اللهَ مُوسَى تَكْلِيمًا)
قال: هبني قرأت ذلك فما تصنع بقوله تعالى {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [الأعراف:١٤٣] ، وما تصنع بقوله تعالى {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ} [البقرة:٢٥٣] .
وهذا يدل كما ذكرنا لك على أنه لا يستقيم مع الآيات الأخر.
٢ - قول الأشاعرة:
وهذا هو أخطر الأقوال لأنَّ قول المعتزلة جمهور الأمة يقول بخلافه يعني جمهور المنتسبين للقبلة يقولون بخلافه في زماننا هذا، ما فيه من يقول بقول المعتزلة إلا ثلاث طوائف:
الرافضة والإباضية أو الخوارج والزيدية.
قول الأشاعرة ذكرنا لكم أنَّ كلام الله معنىً وأنَّ القرآن أُلْقِيَ في نفس جبريل فَعَبَّرَ عنه.
وهذا القول منهم لا شك أنه أخص من قول المعتزلة.
ولذلك تجد أنَّ الأشاعرة هم الذين أخذوا زمام الرد على المعتزلة في خلق القرآن في القرون المتوالية بعد زمن السلف كالإمام أحمد والبخاري والأئمة هؤلاء تولوا الرد وعثمان بن سعيد وغيره ومن صنف.
لكن من رد على المعتزلة بردود عقلية وتوسّع في ذلك هم الأشاعرة وبينهم وبينهم مناظرات.
ولأجل خلاف المعتزلة والأشاعرة في هذه المسألة كان أهل الحديث والأشاعرة في أول الأمر متفقين غير مختلفين حتى حدثت فتنة ابن القُشَيْرِيْ المعروفة في أواخر القرن الخامس، فصارت المنابذة العظيمة ما بين الأشاعرة وأهل السنة.
فكان الأشاعرة لا يعلنون مذاهبهم في كل المسائل على التفصيل حتى حدثت الفتنة.
المقصود من هذا أنَّ الأشاعرة ردوا على المعتزلة في خلق القرآن.
وأَصْلُ مذهب ابن كُلَّابْ في هذه المسألة أنه توسط ما بين قول أهل الحديث -لأنه خالط أهل الحديث- وما بين قول المعتزلة فأتى بهذا الشيء الذي هو: أَنَّ القرآن معنى لأنَّ الذي من أجله قيل إنَّ القرآن مخلوق هو أنَّ كلام الله - عز وجل - أصوات وحروف وأنه يُسْمَعْ.