[المسألة الثانية] :
أنَّ التسليم لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم هو تسليم للحق المطلق.
والبراهين التي يتعاطاها الناس في العقليات وفي مصدر التلقي هذه البراهين تختلف -كما ذكرت لك تنقسم إلى أقسام ثلاثة-.
والتسليم يعني أنَّ البرهان الديني الشرعي يقين وأنَّ البرهان العقلي ناقص وأنَّ البرهان العاطفي فطري.
معنى ذلك أنَّ البرهان الديني يقيني في مُقَدِّمَاته، نصل إلى صدق الكتاب وصدق السنة بمقدمات. [.....] (١) .
[.....] البرهان العقلي يعتمد على أشياء:
- الأول منها يعتمد على الحس.
- والثاني يعتمد على التجربة.
- والثالث يعتمد على تصديق اللاحق بالسابق.
١ - النوع الأول من البرهان العقلي الذي اعتمدته المدرسة العقلية: (الحس) :
فالله - عز وجل - جعل للإنسان أعضاء: سمع، بصر، لسان؛ يعني جعل له حواسّاً كما قال سبحانه {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل:٧٨] ، فهذه الثلاث هي التي يسميها الفلاسفة والمناطقة يسمّونها وسائل تحصيل المعرفة.
هذه وسائل ضرورية حِسِّيَّة؛ يعني بعينك حَصَلَ لك البرهان، بسمعك حَصَلَ لك البرهان، بيدك لمست الشيء حَصَلَ لك البرهان.
فالمعرفة جاءت من براهين ضرورية مُحَسَّة ليست خارجة عن المحسوس.
ولذلك ما يُجادل أحد في هذا بهذه البراهين إلا طائفة لا يُعبأ بها يجادلون في الضروريات.
ثُمَّ بعد ذلك بُنِيَتْ المعرفة بالحسيات من طريق المقارنة بين هذه المعلومات التي جاءت بالوسائل الحسية.
يعني نأتي نقول: هذا طويل، هذا العمود طويل، الآخر ليس في طوله. عرفنا حجم هذا وطوله بالعين، فصار الحجم وصار الطول مُدرَكاً محسوسا بأمر ضروري، ثم بعد ذلك يُنسب له الشيء آخر، فإذا رأينا ما هو أقل منه قيل هذا أقصر، ما هو أطول منه قيل هذا أطول، فيأتي أحد وينازعك يقول القصير أطول من الطويل، لا يُقبل، لماذا؟
لأنه المقارنة ما بين هذا وهذا حَصلت بمقدمات يقينية؛ لأنَّ المقدمات الحسية يقينية، مُقَدِّمَة العين أنها حَسَّت بهذا أنه أطول من ذاك، ما يمكن يأتي يجادل ويقول لا هذا أطول، يعني القصير أطول من الطويل؛ لأنَّ هذا شيء مُدْرَك بالعين، وهذا ينتج في كل المقدمات الحسّية.
وانتبه لمسألة المقدمات الحسّية؛ لأنها أقوى البراهين اللي هي الضروريات، أقوى البراهين.
تشرب ماء تقول هذا بارد يأتي آخر ويقول -إذا كان بارد جداً- يأتي آخر ويقول: هذا حار يغلي. لا يمكن، لماذا؟
لأنَّ البرهان عليه الحسّ.
فلان مثلا ملتحي، يأتي آخر، يقول: لا هذا حالق لحيته.
هذا لا يمكن أن يكون ثَمَّ لأنَّ البرهان حسّي.
كذلك السمع يقول هذا صوت إنسان، قال الآخر: لا هذا صوت مثلاً إيش؟
صوت سيّارة مثلا، لا يمكن، هذا يتكلم
لماذا؛ لأن البرهان جاء سمعي.
وهذه تعتمدها هذه النقطة لأنها تفيد في قضية الاستسلام.
هذا البرهان الحسي هو الذي بنى عليه طائفة من الناس الكلام على نظرية المعرفة وتكلّموا فيه.
قلنا اعتمدوا على الحس -يعني أهل العقل-:
اعتمدوا على الحس، وعلى التجربة، وعلى تقليل أو متابعة اللاحق للسابق.
٢ - النوع الثاني من البرهان العقلي الذي اعتمدته المدرسة العقلية: (التجربة) :
فما يَصْلُحُ للتجربة تَكُونُ التجربة برهاناً صحيحاً له؛ لكن ما لا يَدْخُلُ تحت التجربة، كيف تكون التجربة برهانا صحيحا له؟
ونقول الله - عز وجل - جَعَلَ الأشياء على قسمين:
- قسم لا تدخله الأهواء لتُغَيِّرْ حقائقه.
- وقسم يدخله الهوى ليُغَيِّرَهُ.
والله - عز وجل - جعل كلماته تامّة {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} [الأنعام:١١٥]
ما لا يدخله الهوى لم تأتِ الشرائع ببيانه، وهو غاص فيه الفلاسفة، وغاص فيه العلماء، وغاص فيه الباحثون.
لم تأتِ الشرائع ببيانه؛ لأنه لا يدخله الهوى، واحد زائد واحد يساوي اثنين يساوي ثلاثة يساوي أربعة.
لم تأتِ به الشرائع؛ لأنَّ هذا الله - عز وجل - خَلَقَ الأشياء واحد زائد واحد يساوي اثنين، خَلَقَ الله - عز وجل - الجبل فيه من المكونات كذا وكذا، خَلَقَ الله - عز وجل - الجاذبية على هذا النحو وقوانين الجاذبية على هذا النحو، لا يمكن لهذه الأشياء أن تدخلها الأهواء.
ولهذا لم تتعرّض لها الشرائع، ولم تتعرض لها الديانات، وتُرِكَ إستنتاجها والبحث فيها للناس؛ لأنَّ هذه سيصلون إليها بالتجربة، سَيُخَطَّأ المخطئ وسيُصَوَّبْ المصيب؛ لأنّ الشيء ماثل أمامهم، ليس لهم هوى في أن يجعلوا معامل الجاذبية كذا يزيدون واحد ولا ينقصون واحد من عشرة ما لهم.
الهوى ما يدخل في هذه المسائل.
إذاً قلنا إنَّ الشرائع جاءت لما فيه إخراج الإنسان من داعية هواه.
فالأشياء التي يَتَحَكَّمُ فيها الهوى جاءت الرّسالات لها.
(١) انتهى الوجه الأول من الشريط الحادي عشر