للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

[المسألة الرابعة] :

مِثْلُ التأويل في تسليطه على نصوص الغيبيات ما يسمى بالمجاز.

والتأويل والمجاز يُستخدَمَانِ في مباحث الصفات والأمور الغيبية بعامة، يستخدمها أهل البدع الذين لم يُسَلِّمُوا للنصوص دِلَالَتِهَا.

(المجاز) لم يأتِ هذا اللفظ لا في القرآن ولا في السنة ولا في كلام الصحابة ولا في كلام التابعين ولا في كلام تبع التابعين.

يعني انقضت القرون الثلاثة المفضلة ولم يُستعمل هذا اللفظ، فلفْظُهُ حادث.

والألفاظ الحادثة بحسب الاصطلاح:

- إن كان هذا المصطلح أُسْتُخْدِمَ في شيءٍ سليم، في شيء مقبول شرعاً، فلا بأس به إذ لا مُشَاحَّةَ في الاصطلاح، مِثْلْ ما قالوا التأويل هو كذا وكذا فَعَرَّفُوهُ، ومثل ما تَعَارَفُوا على أشياء كثيرة في العلوم.

ولهذا اسْتَعْمَلَ لفظ المجاز بعض العلماء في معاني صحيحة؛ فَكَتَبَ أبو عبيدة مَعمَر بن مثنى كتاباً سَمَّاهُ مجاز القرآن، وتجد في ألفاظ لابن قتيبة أيضاً ذِكْرَاً للمجاز -للمجاز العام-؛ يعني المجاز المقبول؛ وله هو نَظَرْ في المجاز لا نَعْرِضُ له الآن.

إذاً هذا تاريخ اللفظ أنَّ اللفظة حادثة ما كانت مستعملة.

ماذا يُقْصَدْ بلفظة (مجاز) من حيث اللغة؟

المجاز يعني: ما يجوز، هذا في اللغة.

ولهذا قال أبو عبيدة معمر بن المثنى في كتابه مجاز القرآن {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} ، {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ} [المؤمنون:٢٨] ، قال: مَجَازُهُ علا على العرش، وهذا يعني أَنَّهُ معناه في اللغة؛ يعني ما تُجِيْزُهُ اللغة.

يعني هذا مجازه اللفظي في اللغة وما أجازته العرب من المعنى.

إذا نظرت لذلك وجدت أَنَّ استعمال من استعمل لفظ المجاز غير استعمال المُحَرِّفين.

لهذا نقول: المجاز عند أهل التّحريف عَرَّفُوهُ بما يلي:

قالوا: المجاز هو نقل اللفظ من الوضع الأول إلى وَضْعٍ ثانٍ لعلاقة بينهما.

وعَرَّفَهُ آخرون بقولهم: المجاز هو استعمال اللفظ في غير ما وُضع له.

مثاله عندهم، يقول مثلا: أَلْقَى فلان عَلَيَّ جناحه.

فمجاز الجناح هنا قالوا: الجناح يعني كنفه ورعايته ويده إلى آخره.

قالوا: أصل الجناح للطائر، جناح الطائر.

فلما اسْتُعْمِلَ في الإنسان صار استعمال اللفظ لغير ما وُضِعَ له، لهذا سَمَّوهُ مَجَازَاً.

إذا تبين لك ذلك فنقول:

أولاً قولهم في تعريف المجاز: إنَّ المجاز هو استعمال اللفظ في غير ما وضع له مَبْنِيٌّ على أنَّ الألفاظ موضوعة لمعاني.

ومن الذي وَضَعَ المعنى أو اللفظ للمعنى؟ من الذي وضع؟

يقولون العرب وَضَعَتْ.

التعريف الأول -وهو المشهور عند الأصوليين- المجاز نقْلُ اللفظ من وضع أول إلى وضع ثاني.

يعني أنَّ العرب وضعت للألفاظ شيئاً ثم نقلته من الوضع الأول إلى الوضع الثاني.

هذا التصور مبني على خيالٍ في أصله.

وهو أنه يُطَالَب من عَبَّر هذا التعبير بأن يقال له: من الذي وَضَع الوضع الأول؟

هذا أَوَّلَاً في التعريف

لهذا لا تدخل مع الذين يبحثون في المجاز أصلاً، يعني في الغيبيات

أما في الأمور الأدبية، هذا الأمر سهل؛ يعني الخلاف الأدبي سهل.

لكن إذا أتى المجاز في الأمور الغيبية والصفات فَنَاقِشْهُ في التعريف.

الآن ما هو تعريف المجاز؟

استعمال اللفظ في غير ما وُضِعَ له، أو نَقْلُ اللفظ من الوضع الأول إلى الوضع الثاني.

هذا الوضع الأول والوضع الثاني كيف عرفنا أَنَّ هذا هو الوضع الأول؟

الجواب: لا سبيل إلى الجواب.

ليس ثَمَّ أحد يمكن أن يقول هذا اللفظ وُضِعَ لكذا، إِذْ معنى ذلك أَنَّ العرب اتفقت، عَقَدَتْ مُؤْتَمَرَاً، اجتمعت جميعاً وقالت: الآن نحدد لغتنا في الوضع الأول.

هذا السقف السماء وضعها الأول هو ما علا.

الأرض هي هذه هذا الوضع الأول.

السَّيْرُ، جَرَى، مَشَى، معناه كذا.

جَنَاحْ هُوَ لهذا الطائر، حَمَامْ هو لهذا الطائر، وهكذا.

فَيُتَصَوَّرْ من التعريف أنَّ العرب اجتمعت وجَعَلَتْ لكل لفظٍ معنىً في لغتها.

وهذا خيال؛ لأنّ من عَرَفَ ودرس نشأة اللغات لا يمكن أن يتصوّر أنَّ اللغة العربية نشأت على هذا النّحو.

لهذا نقول: أولاً التعريف غير صحيح، لأنَّ الوضع الأول يَحْتَاجُ إلى برهان لإِثْبَاتِ أَنَّهُ وَضْعٌ أول.

أَثْبِتْ لي أَنَّ هذا هو الوضع الأول ولا بأس.

ولا سبيل إلى الإثبات.

لهذا نقول: إنَّ المعاني في اللغة العربية كثيرٌ منها كُلِّيَّةْ.

وكلما ذهبت إلى المعنى الكلي كلما كنت أحْذَقْ وأَفْهَم للغة.

وهذا ما جرى عليه العالم المحقق ابن فارس في مقاييس اللغة، كتاب سماه (معجم مقاييس اللغة) جَعَلَ الكلمات لها معاني كلية ثم تندرج التفريعات تحت المعنى الكلي، وليس وضعاً أول ثم وضعاً ثانيا، وهذا حقيقة وهذا مجاز، ليس كذلك.

إذا تبين ذلك فنقول: لفظ التأويل ولفظ المجاز يُسْتَعْمَلَانِ كثيراً.

الظاهر: يقابله التأويل.

والحقيقة: يقابلها المجاز.

فيُقَال هذا حقيقة وهذا مجاز، ويُقَالْ هذا ظاهر وهذا تأويل.

<<  <   >  >>