للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

[المسألة التاسعة] :

في معنى إضلال الله - عز وجل - من أَضَلْ، وهدايته من هَدَى.

إذا كنا نقول إنَّ الإنسان غير مجبور على الضلال وغير مجبور على الهدى.

فما معنى قوله {يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ} (١) وهذا من احتجاجات الجبرية؟

ما معنى {وَمَن يَشَإِ اللهُ يُضْلِلْهُ وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأنعام:٣٩] ؟

ما معنى {مَن يَهْدِ اللهُ فَهُوَ المُهْتَد} [الكهف:١٧] ؟

ما معنى {مَن يَهْدِ اللهُ فَهُوَ المُهْتَدي} [الأعراف:١٧٨] ؟

ما معنى {مَن يُضْلِلِ اللهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُم فِي طُغْيَانِهِم يَعْمَهُونَ} [الأعراف:١٨٦] ؟

ونحو ذلك من الآيات التي فيها لفظ الإضلال والاهتداء لله - عز وجل - وفق مشيئته سبحانه وتعالى وإرادته.

هذه المسألة ضل فيها الناس ومن أجلها ضَلَّت الجبرية والقدرية.

وهي مرتبطة في بيانها بمسألة التوفيق والخذلان.

فالله - عز وجل - عَلَّقَ الإضلال بمشيئته وعلق الهداية بمشيئته.

ونعلم أنَّ ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، فما شاء الله - عز وجل - خَلَقَهُ، الذي يشاؤه سبحانه وتعالىأن يكون فإنه يكون، والذي يشاء الله - عز وجل - ألا يكون فإنه لا يكون.

إذا كان كذلك فإنَّ حدوث الهداية وحدوث الضلال نتيجة لأشياء.

ولذلك جاء لفظ التوفيق والخذلان في النصوص.

جاء لفظ التوفيق في القرآن في قوله تعالى {وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بْاللهِ} [هود:٨٨] ، ونحو ذلك فالله - عز وجل - يوفّق من يشاء ويخذل سبحانه وتعالى من يشاء.

ما معنى وَفَّقَ وخَذَلَ؟ وما صلتها بـ (يهدي الله من يشاء ويضل من يشاء) ؟

إذا تبين لك معنى التوفيق والخذلان فإنه سيَتَبَيَّن لك بوضوح معنى أنَّ الله - عز وجل - يضل من يشاء ويهدي من يشاء سبحانه وتعالى.

* التوفيق: عند أهل السنة والجماعة هو إمداد الله - عز وجل - بعونه، إمداد الله - عز وجل - العبد بعونه -يعني بإعانته- وتسديده وتيسير الأمر وبذل الأسباب المعينة عليه.

فإذاً التوفيق فَضْلْ لأنَّهُ إعانة.

* وأما الخذلان: فهو سلب التوفيق، فهو سلب الإعانة.

يعني التوفيق إعطَاءٌ، مَنٌّ، كَرَمٌ.

وأما الخذلان فهو عَدْلٌ وسلبٌ.

لأنَّ العبد أعطاه الله - عز وجل - القُدَرْ، أعطاه الصفات، أعطاه ما به يُحَصِّلُ الهدى، أعطاه الآلات، يَسَّرَ له، أنزل عليه الكتب، فلذلك هو بالآلات التي معه قامت عليه الحجة.

لكِنَّ الله - عز وجل - يُنعم على من يشاء من عباده بالتوفيق فيعينهم ويسدِّدُهُم ويفتح لهم أسباب تحصيل الخير.

ويمنع من شاء ذلك فلا يُسَدِّدُهُ ولا يُعِينُهُ ولا يفتح له أسباب الخير بل يتركه ونفسه.

وهذا معنى أنه - عز وجل - يخذل؛ يعني لا يُعِين، يترك العبد وشأنه ونفسه.

ومعلومٌ أنّ العبد عنده آلات يُحَصِّلُ بها الأشياء لكن هناك أشياء ليست في يده.

هناك أشياء لا يمكن له أن يُحَصِّلَهَا، فهذه بيد من؟

بيد الله - عز وجل -.

لأنَّ الإنسان مرتبط قَدَرُهْ بأشياء كثيرة من الأسباب التي تفتح له باب الخير.

مثل مثلاً أن يكون ذا أصحابٍ أو أن يُيَسَّرَ له أصحاب يعينونه على الخير.

مثل أن لا يكون في طبعه الخَلْقِي مزيد شهوة، إما شهوة كِبِرْ من كبائر القلوب أو من كبائر البدن، هذه الأشياء موجودة فيه خَلْقاً، خارجة عن اختياره وتصرفه.

فالله - عز وجل - يُوَفِّقْ بعض العباد بمعنى يعينهم على الأمر الذي يريدونه، إذا انفَتَحَ له بابُ خَيرٍ وأَرَادَهُ فَيُحِسُّ العبد أنه أُعين على ذلك، إذا أَرَادَ فِعْلَ أَمْرٍ ما من الخير يَسَّرَ الله - عز وجل - له أسباباً تعينه فانفتح له طريق الخير.

وآخَرُ حَضَرَتْهُ الشياطين وغلبته على مُرَادِهِ وأَطَاعَهَا؛ لأنه لم يُزَوَّد بِوِقَايَة، بإعانة، بتوفيق يمنعه من ذلك.

فإذاً صار عندنا أنَّ مسألة إضلال الله - عز وجل - مَن يشاء هو بخذلان الله - عز وجل - العباد.

وهداية الله - عز وجل - من يشاء بتوفيق الله - عز وجل - بعض العباد، يعني أعان هذا وترك ذاك ونفسه.

كونه - عز وجل - أعان هذا هو بمشيئته.

فإذاً من يشأ الله يُضْلِلْهُ يعني: يَسْلُبُ عنه التوفيق فيَخْذُلُهُ فينتج من ذلك أنَّ الله - عز وجل - سَلَبَ عنه إعانته، سَلَبَ عنه تسديده، سَلَبَ عنه أسباب الخير، سَلَبَ عنه غَلْقْ أبواب الشر من الكفر وما دونه.

فإذاً يكون ضالاً، لاهٍ هو بفعل نفسه؛ لأنَّهُ وُكِلَ إلى نفسه، لأنَّ الله - عز وجل - لم يَمُنْ على هذا بمزيد توفيق.

فإذاً مسألة الإضلال في كلام أهل السنة والجماعة عدل، ومسألة الهداية فضْل.

ولهذا أعظم الفضل والنعمة والإحسان نعمة التوفيق، الذي هو في الحقيقة نعمة الهداية.


(١) النحل:٩٣، فاطر:٨.

<<  <   >  >>