للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

[المسألة الثانية] :

معنى (مُمِيتٌ) أي خَلَقَ الموت، فيمن شاء سبحانه، يعني جعل من شاء مِنْ خَلْقِهِ ميِّتاً بعد أن كان حيا.

والموت عند جمهور أهل السنة ومن وافقهم من غيرهم مخلوق موجود.

وهو الذي يعبِّرون عنه بأن الموت صفة وُجودية وذلك لقول الله - عز وجل - {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك:٢] فجعل الموت مخلوقا وتَسَلَّطَ عليه الخلق، وهذا يدل على أنه موجود، (خَلَقَ الْمَوْتَ) وخَلْقُهُ يدل على أنه صفة وُجودية.

وكذلك ما جاء في السنة من أحاديث كثيرة فيها أن الموت يؤتى به يوم القيامة على هيئة كبش فيذبح على قنطرة بين الجنة والنار (١) ، فهذا يدل على أنَّ الموت موجود وله صفة الوجود.

وهذا له أدلة أيضا كثيرة تدل على ما ذكرنا من أنَّ الموت ليس عدما للحياة، وإنما هو وجودٌ لصفةٍ ليست هي الحياة.

فالحياة وصف صفة، وهو وجود لصفة أخرى، وهذه الصفة الأخرى هي الموت.

هذا هو الذي قرره جمهور أهل السنة.

وقال غير أهل السنة من الفلاسفة وبعض من وافقهم من أهل السنة وهو قول أهل الكلام فيما ذكروه في كتبهم الخاصة بالكلام، قالوا في تعريفهم للموت: الموت عدم الحياة عمّا من شأنه أن يكون حيّا.

وهذا التعريف تجده في كثير من كتب التفسير التي ينحو أصحابها منحى أهل الكلام، حتى إنَّ بعضها المنتسبين لمنهج السلف ظنَّ أنَّ هذا التعريف يمشي فنقل بعض النقولات فيها هذا التعريف.

وهذا هو تعريف أهل الكلام والفلاسفة يقولون: الموت عدم الحياة عما من شأنه أن يكون حيا.

ويجيبون عن الآية في قوله {خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ} بأنّ الخلق هنا بمعنى التقدير، فيكون عندهم معنى الآية الذي قدّر الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا.

وهذا مصيرٌ منهم إلى أن الموت عدمٌ محض.

وهذا خلاف الأدلة الكثيرة من السنة وأيضا من القرآن التي تدل على أنَّ الموت حياة أخرى.

ولهذا نقول لمن مات إنه في الحياة البرزخية وليس في عدمٍ.

فحياة الإنسان متعلقة بروحه ومتعلقة بجسده.

وحياة الجسد بحلول الروح فيه، فإذا فارقت الروح الجسد صار الجسد عديم الحياة.

لذلك تنتثر أجزاؤه في التراب ويذهب.

وأما الروح وهي داخلة في جملة تسمية الإنسان إنسانا، أما الروح فهي مخلوقة للبقاء لا للعدم.

لهذا إذا قيل ماتَ يعني صار جسمه للعدم أو صار جسمه للفناء، وأما روحه فهي للبقاء، لكن لها حياة تخصُّها.

والجسد عند أهل السنة في القبر له تَعَلُّقْ بالروح؛ فإنَّ الحياة البرزخية للروح عند أهل السنة، والجسد تبع لها؛ تبع للروح، ليست الحياة للروح فقط؛ بل هي للروح والجسد تابع.

عكس الحياة الدنيا؛ فإن الحياة فيك الآن للجسد والروح تبع، فيألم الجسد فتألم الروح، وهكذا يسعد الجسد فتسعد الروح إلى غير ذلك من التفصيل.

وأما بعد الحياة البرزخية يعني بعد الموت، فإنَّ الموت حالة، صفة وُجِدَتْ أدَّت إلى انفصال الروح عن البدن، فصارت الروح بالموت لها حياة تخصُّها، وصار البدن بالموت له صفة تخصه، وبين هذا وهذا تَعَلُّقْ.

يدلُّكَ هذا على صحة ما اختاره أئمة أهل السنة بما دلتهم عليه الأحاديث وظاهر القرآن من أنَّ الموت صفة توجد وليس عدماً محضاً، بل هو موجود له خصائصه.

والموت في الآية مخلوق {خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ} .

وقولهم إنَّ الموت والحياة هنا تَسَلَّط عليها الفعل (خلق) فيكون بمعنى التقدير، نقول هذا غير مستقيم لأنه علَّلَ ذلك بعده بقوله {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} وحُسْنُ العمل إنما يكون بعد الوجود، ولهذا قدَّمَ الموت على الحياة؛ لأنّ الموت يكون بعده الجزاء على حُسن العمل، ولِما جاء في السنة من الأدلة.


(١) لما رواه الشيخان: البخاري (٤٧٣٠) / مسلم (٧٣٦٠) من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن النبي ? قال (يُؤْتَى بِالْمَوْتِ كَهَيْئَةِ كَبْشٍ أَمْلَحَ فَيُنَادِى مُنَادٍ يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ، فَيَشْرَئِبُّونَ وَيَنْظُرُونَ فَيَقُولُ هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا فَيَقُولُونَ نَعَمْ هَذَا الْمَوْتُ، وَكُلُّهُمْ قَدْ رَآهُ، ثُمَّ يُنَادِى يَا أَهْلَ النَّارِ، فَيَشْرَئِبُّونَ وَيَنْظُرُونَ فَيَقُولُ هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا فَيَقُولُونَ نَعَمْ هَذَا الْمَوْتُ، وَكُلُّهُمْ قَدْ رَآهُ، فَيُذْبَحُ ثُمَّ يَقُولُ يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ، خُلُودٌ فَلاَ مَوْتَ، وَيَا أَهْلَ النَّارِ، خُلُودٌ فَلاَ مَوْتَ) .

<<  <   >  >>