[المسألة الثانية] :
قال (وَلَا نُصَدِّقُ كَاهِنًا وَلَا عَرَّافُا) العلماء اختلفوا في معنى الكاهن والعَرَّافْ وتفسير هذا وهذا على عدة أقوال.
وظاهر صنيع المؤلف الطحاوي رحمه الله أنَّهُ يُفَرِّقُ بين العَرَّافْ وبين الكاهن.
وسبب التفريق أنَّ الأحاديث جاء فيها ذِكْرُ الكاهن مفرداً والعَرَّافْ مُفْرَداً، وجاء فيها ذِكْرُ الكاهن والعرَّافْ مَجْمُوعَينِ مما يَدُلُّ على الفرق بينهما.
لهذا إذا نظرت إلى أصل اللغة فإنَّ كلمة تَكَهَّنَ وكاهِنْ غير كلمة تَعَرَّفَ وعارِفَ وصيغة المبالغة عَرَّافْ.
لأنَّ التَكَهُّنْ هو رَجْمُ الإنسان بالغيب فيما لا يعلم، يعني أنَّهُ يستقبل ما سيأتي بما لا علم له به.
ويدخل في ذلك عموم الظن؛ لكن الظن ليس معه ادِّعاءْ لعلم الغيب، وأما التَّكَهُّنْ فصار فيه ظَنٌّ هو في الأصل يعني في اللغة وظَنٌ فيما سيحصل مُسْتَقْبَلَاً.
لهذا يجوز لغَةً أنْ يقول القائل تَكَهَّنْتُ أَنُّهُ سيكونُ كذا وكذا على اعتبار يعني في المستقبل أنَّهُ يظن أنَّه سيكون كذا وكذا.
ثم شاع هذا الاسم فيمن يَدَّعُونَ علم الغيب بواسطة الشياطين، فصار لَقَبَاً واسْمَاً على طائفةٍ مخصوصة وهم الذين يَتَوَلَّونَ هذه الصَّنْعَةْ ويُخْبِرُونَ الناس عمّا سيكونُ من أحوالهم فيما يستقبلون من الزّمان.
فإذاً صار الكاهن كما عَرَّفَهُ بعض العلماء على هذا الاعتبار هو من يقضي ويُخْبِرُ بالمُغَيَّبات.
وأما لفظ العَرَّافْ فهو في اللغة أَصْلُهُ من عَرَفَ أو تَعَرَّفَ يَتَعَرَّفُ فهو مُتَعَرَّفٌ أو عَرَّافْ.
فهو الذي يُعَرِّفُ بأمورٍ غيبية يَعْرِفُهَا فَيُخْبِرُ بها.
وهذا يشمل الأمور الغيبية في الزمان الماضي مما حدث أو مما سيكون؛ لأنَّ المعرفة والتَّعَرُّفْ تشمل الماضي والمستقبل.
لكن خُصَّ في بعض الاستعمالات بأنَّهُ من يُخْبِرُ عن الأمور التي حصلت وانتهت مما خَفِيَ عن الناس كالإخبار عن مكان المسروق أو الضَّالَةْ أو عن شيءٍ أَضَاعَهُ الإنسان أو عن شيءٍ حصل وخَفِيَ عن الناس ونحو ذلك من المسائل.
إذا نظرت إلى هذا الأصل اللغوي وارتباط ذلك بحال أهل الجاهلية، فالعلماء اختلفوا في ذلك على أقوال:
١ - القول الأول:
أنَّ الكاهن: هو القاضي بالغيب، وهو الذي يُخْبِرُ عن أمورٍ مُسْتَقْبَلَةٍ من الغيب مستعيناً في ذلك بالشياطين.
والعراف: هو الذي يُخْبِرُ عما خَفِيَ مما حَدَثَ وغاب عن الناس بالاستعانة أيضاً بالشياطين.
٢ - القول الثاني:
أنَّ الكاهن يَعُمُّ الجميع، فالعراف أخص، والكاهن يدخل فيه من يُخْبِرُ باُمورٍ مُسْتَقْبَلَة أو ماضية غابت عن الناس، أو التنجيم أو نحو ذلك، فيجعلون:
الكاهن: اسماً عاماً لكل من يَدَّعِي شيئاً من علم الغيب، فيدخل في صور كثير من الضرب بالرمل ومن الوَدَعْ ومن الخشب والاستقسام بالأزلام، خشبة (آبا جاد) والطرق بالحصى ونثر السُّبَح، والخط في الرمل ونحو ذلك مما هو شائعٌ عندهم، وأدْخَلَ فيها طائفة من المعاصرين -كما سيأتي بيانه- التنويم المغناطيسي وما يجري مجراه.
والعراف أخص من هذا فيكون مخصوصاً باسْمٍ، والاسم العام الكاهن.
هذا القول الثاني هو المشهور عند أهل العلم والأكثر عليه.
٣ - القول الثالث:
أنَّ العراف أشمل والكاهن أخص منه.
لأنَّ الكاهن مخصوص بالعلم المسْتَقْبَلِي عل حسب قولهم.
والعراف لكل من يدَّعي شيئاً من علم الغيب.
وهذا هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية كما نقله عنه شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب في كتاب التوحيد.
* والراجح من هذه الثلاثة أنَّ الكاهن اسم غير اسم العَرَّافْ.
فالكهانة لها صفتها وأحكامها، والعَرَّاف له صفته وأحكامه على نحو ما ذكرنا في القول الأول.