[المسألة الثالثة] :
الناس لهم في الكرسي أربعة أقوال، يعني غير أهل السنة:
١- القول الأول: وهو قول الحسن وهو أنَّ الكرسي هو العرش وهذا قول ضعيف، الآثار ترده كما قلت لك.
٢- القول الثاني: أنَّ الكرسي لمَّا ذُكِرْ في آيةٍ واحدة هي آية الكرسي في سورة البقرة، أَنَّهُ تمثيل وأنه ليس ثمَّ حقيقة للكرسي؛ ولكن هو تمثيل لتقريب عظمة الله - عز وجل -.
وهذا هو قول الذين ينفون كثير من الصفات التي تدل على عظمة الله وقدرته كقوله {وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ والسَّمَوَاتُ مَطْوِيَاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر:٦٧] ، ونحو ذلك فيقولون: إنَّ هذا كله تخييل؛ بل قالوا: إنَّ كل نص جاء في الكتاب والسنة من هذا القبيل فإنه لأجل التخييل لا تُقْصَدُ حقائقه، وإنما المقصود تعظيم الناس لله - عز وجل - وإلا فهذه ليست على حقائقها.
وهذا القول معروف من أقوال المعتزلة وطائفة من الأشاعرة، ومن المعاصرين قرَّرَهُ في تفسيره سيد قطب في ظلال القرآن وجعله قاعِدَةً كلية في آخر سورة الزّمر عند قوله تعالى {وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ والسَّمَوَاتُ مَطْوِيَاتٌ بِيَمِينِهِ} .
وفي الحقيقة إنَّ القول بأنَّ هذا كله على جهة التخييل إلغاء لكل الدلالات الشرعية للألفاظ وإلغاء لكل الغيبيات لأنه يكون المقصود في كل هذا التمثيل.
وهذا القول قَدَّمَهُ الزمخشري في الكشاف وكأنه يميل إليه، وعلى قاعدتهم في أنَّ كل النصوص من هذا الباب على وجه التوهم والتخييل.
وهذا القول كما ذكرت لك غلط عظيم؛ لأنَّ معناه نفي كل الأمور الغيبية هذه على هذه القاعدة، فما كان من الأمور الغيبية يدل على عظمة الله وكان فيها تمثيل بأشياء موجودة عند البشر فتُنْفَى ويكون المقصود التمثيل لا الحقيقة.
٣- القول الثالث: أنَّ الكرسي هو العلم، فكرسي الرحمن - عز وجل - هو عِلْمُهُ، وقوله {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} يعني وسع علمه السموات والأرض.
وهذا القول مروي عن ابن عباس ولكن الصحيح عن ابن عباس خلاف هذا القول.
ويُرَدْ على هذا القول بأمور:
١ - أنَّ مادة الكرسي للجمع، والعلم شيء آخر، هذا من جهة اللغة.
٢ - أنَّ الله - عز وجل - ذكر أنَّ الكرسي وسع السموات والأرض؛ ولكن علمه - عز وجل - وسع كل شيء، قال سبحانه {ربنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} [غافر:٧] ، وقال - عز وجل - {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} وعِلْمُ الله - عز وجل - يشمل علمه بذاته - عز وجل - وبأسمائه وصفاته وأفعاله وعلمه - عز وجل - الذي يسع السموات والأرض وعلمه - عز وجل - الذي يسع الجنة والنار وعلمه - عز وجل - بعد تغير السموات والأرض وقبل خلق السموات والأرض.
فإذاً تفسير الكرسي بأنه العلم هذا يضاد أنَّ العلم يسع كل شيء {وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} ، وأما كرسي الرحمن - عز وجل - فقال {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} .
٣ - أنَّ قولهم إنَّ الكرسي هو العلم وأنَّ مادة تَكَرَّسَ راجعة إلى العلم، والعلماء سُمُّوا كراسي لأجل العلم ونحو ذلك من الاحتجاجات واحتجاجهم بقول الشاعر يصف قنصه لفريسته:
فلما احتازها تكرَّسا.................
قالوا يعني علم.
فهذا من الجهة اللغوية فيه ضعف، وذلك أنَّ العلم ليس راجعاً إلى الجمع والعلماء صحيح أنهم جمعوا علومهم لكنَّ العلم من حيث هو يَحْصُلُ بتلقي المعلوم ثُمَّ العِلْمُ به والمعرفة به، فليس كل علم ناتجاً عن جمع بل يكون ناتجاً عن تصور الخَبَر، فيكون معلوماً له.
وهذا هو المقرر في اللغة وعند أهل نظرية المعرفة، فإن المرء يعلم بدون جمع، والله - عز وجل - وَصَفَ الصغير بقوله {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ} [النحل:٧٨] ، فكُلَّمُا عَلِمَ المخلوق، كلما علم الصغير شيئا صار عالماً به ولو لم يجمعه إلى غيره، فمادة الجمع غير مادة العلم، مادة الكَرْسْ غير مادة العلم والعلم ما صار علماً للجمع، وإن كان العلماء سُمُّوا كراسي لأجل جمعهم العلم.
فإذاً راجِعٌ تفسير كلمة التكرس إلى كلمة الجمع، واحتجاجهم بقول الشاعر كما ساقه ابن جرير الطبري في تفسيره:
فلما احتازها تكرسا...............
يدل على أنَّ التكرس بمعنى الجمع لا بمعنى العلم لم؟
لأنه قال (فلما احتازها) يعني صارت في حوزته.
(تَكَرَّسَا) وهو عَلِمْ بأنه قَنَصَهَا لمَّا صارت في حوزته.
يكون تكرسه شيئاً جديداً زائداً على ما حَصَلَ له من الحيازة، فالحيازة بها عَلِمْ وزاد بعد الحيازة أن ضَمَّهَا وجمعها إليه.
فإذاً من حيث اللغة فإنَّ دلالة التَّكَرُّس على العلم دلالة ضعيفة؛ بل الصواب أنَّ التَّكَرُّس ومادة كَرَسَ راجعة إلى الجمع في اشتقاقاتها جميعا.