[المسألة الثالثة] :
نُفَصِّلْ الكلام في مسألة الخلاف الفقهي أكثر، وهو أنَّ الاختلاف - اختلاف العلماء في المسائل- هو اختلافٌ في مسائل من الدين في الفقهيات.
والعلماء إذا اختلفوا في الفقهيات فالواجب أن يُرْعَى معه ألاَّ يكون افتراقٌ في الأبدان ولا افتراقٌ في القلوب؛ لأنَّ هذا الخلاف الذي يُوجَدْ ابتلاء من الله - عز وجل - ابْتَلَى به الناس أن يختلف العلماء؛ وهذا يقول بقول وهذا يقول بقول، ويكون لهم فيه سَعَة في بعض البلاد ونحو ذلك، لكن هو ابتلاء يُبْتَلَى به الناس.
فالواجب على أنَّهُ إذا وقع هذا الاختلاف في الأقوال الفقهية أن ينظر إليه الناس أنَّ المختلفين إذا اجتهدوا وتَحَرَّوا الحق وخاصةً من الأئمة الذين شُهِدَ لهم بتحري الحق وطلبه أنَّهم ما بين أجرٍ وأجرين، وأنَّ من وَثِقَ بإمام فاتَّبَعَهُ على ذلك ولم يَسْتَبِنْ له الحق، أنَّهُ معذور في اتِّبَاعِه له، وأَنَّ الله - عز وجل - إذا أراد بالعباد عقوبة فإنه يجعل هذا الخلاف سبباً للتفريط في الجماعة الثانية وهي جماعة الأبدان.
إذا وقعت الفرقة -الاختلاف في الفقهيات- فإذا آل الأمر إلى اختلاف القلوب واختلاف الأبدان والفُرْقَةَ فيها فيكون هذا من العقوبة ومن الزَّيْغْ الذي حصل.
ولهذا قال هنا (والفُرْقَةَ زَيْغاً) عما يجب (وَعَذَاباً) يعاقب الله - عز وجل - به الناس.
ودليل ذلك قوله - عز وجل - لما ذَكَرَ أهل الكتاب قال {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ} [المائدة:١٣] .
{نَسُواْ حَظًّا} يعني تركوا نصيباً {مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ} يعني مما جاءهم في كتاب الله.
ما النتيجة؟
قال {فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء} [المائدة:١٤] ، ومما أَمَرَ الله - عز وجل - به وذَكَّرَنَا به أن نحرص على الاجتماع، الاجتماع في النفوس والاجتماع أيضاً في الأبدان.
فإذا صار اختلاف أهل العلم سبباً لوقوع الفرقة ولوقوع التلاعن والتباغض والسبِّ والشتم وطعن كل فئة في أتْبَاعِ العالم الذي اجتهد وتَحَرَّى الحق فإنَّ هذا لاشك أنَّهُ بغيٌ وظلم يُعَاقَبْ عليه الإنسان، وهذا مما نهى الله - عز وجل - عنه.
وهذا هو الذي حصل، وهو الذي يحصل عند من لم يعلم حدود ما أنزل الله على رسوله، فإنَّهُ قَلَّ أن يحصل اختلاف إلا ويَبْغِي بعض الناس على بعض، إما بِتَجْهِيلٍ أو بسبٍّ أو بوقوعٍ فيه أو نحو ذلك من الأقوال.
والواجب أن يُنْصَرْ الحق وأن يُعْذَرْ من خالف في الفقهيات ويُعْلَمْ أنّه إذا اجتهد وتَحَرَّى الحق فإنَّهُ له أجر لكن لا يُتابع على ذلك.
ولا شك أَنَّ زلة العَالِمْ زلة العَالَمْ، ولكن هذا قضاء الله - عز وجل - وحكمته، فكم من مسائل ثَمَّ من الأئمة المشهورين من خالفوا فيها السنة وخالفوا فيها الدليل باجتهادهم فهم معذورون، ومن اتَّبَعَهُم بلا معرفةٍ للحق وإنما ثِقَةً بذلك الإمام معذور.
ولكن الواجب (١) هو تحرِّي الحق بإتِباعِ ما دَلَّ عليه الدليل من كتاب الله وسنة رسوله أو وافق القواعد والأصول العامة للشريعة التي يعلمها أهل العلم.
وهذا في الحقيقة هو أعظم ما حصل في كل زمان إلى زماننا الحاضر؛ بل وإلى يومنا هذا، فَقَلَّ من يعذُرُ في المسائل المُخْتَلَفْ فيها في الفقهيات؛ يعني التي فيها بحث، فينْظُرُ هذا فيه يجتهد في كذا وهذا يجتهد في كذا، حتى رمى بعضهم بعضاً بالضلال ورمى بعضهم بعضاً بمخالفة ما أمر الله - عز وجل - به؛ بل حُكِمَ على بعضهم بالبدع والمحدثات لأجل بعض المسائل الفقهية التي اختلف فيها الناس.
وهذا مما ينبغي أن يُعْلَمَ كعقيدة أَنَّهُ إذا كانت الفُرْقَةَ في الفقهيات والعمليات والاختلاف في ذلك إذا كانت سبباً للفُرقة في الأبدان فقد بَغَى العباد بعضهم على بعض، ووقعت الفتنة، ووقع البلاء فيهم.
والواجب أن لا يقع فيهم البغضاء والشّحناء لأجل ذلك، كيف إذا زاد الأمر؟! إذا حصل القتال؟! وحصل التكفير؟! ونحو ذلك كما حصل من بعضٍ في بعضِ الأزمان حيث كَفَّرَ بعض الشافعية بعض الحنفية في مسائل، وكَفَّرَ بعضهم بعض الحنابلة في مسائل ونحو ذلك مما وقع فيه طائفة في أعلى درجات الظلم والبغي والعدوان من الناس بعضهم على بعض، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وهذا لا يزال يوجد إلى يومنا هذا، فكلما زاد العلم زادت البصيرة بأمور:
- الأول: أن يحرص طالب العلم على تَحَرِّي الحق.
- والثاني: ألا يجعل تَحَرِّيهِ للحق سبباًً لفُرْقَةْ العباد ولا سبباً في وقوع الشحناء والبغضاء بينهم؛ بل يتودد في ذلك كثيراً ولا يجادل في ذلك مجادلة الذي يريد الانتصار والقوة؛ بل يتكلم في ذلك بسكينة وهدوء.
وما أجمل قول الإمام مالك رحمه الله في نحو هذا لما قيل له (الرجل تكون عنده السنة أيجادل عنها؟)
(١) نهاية الوجه الأول من الشريط الخمسين