للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

[المسألة الأولى] :

نشأة القول بخلق القرآن أو أنَّ كلام الله مجاز وأشباه ذلك؛ ما منشأ القول بهذه المسألة؟ ولم خالف المخالفون في ذلك؟

من المعلوم أنَّ أول من تَكَلَّمَ في هذه المسألة هو الجعد بن دِرْهَمْ وضُحِّيَ به؛ ضَحَّى به خالد القسري، وكان يقول إنَّ الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً ولم يكلم موسى تكليماً، كما رواه البخاري في خلق أفعال العباد.

هذه المسألة تطورت عند الجهمية وعند جهم بخصوصه فَأَصَّلَ لها أصلاً.

وهو أنه نظر في أصل الدين فوجد أنه مبني على إثبات وجود الله - عز وجل - -وانتبه! معي في سياق ما أذكرباختصار- نظر أنَّ أصل الدين مبني على إثبات وجود الله - عز وجل -.

وقد ابْتُلِيَ هو بطائفة من منكري وجود الإله ـ، وحَيَّرُوهْ فيما أوردوا عليه من الأسئلة.

فقالوا له: أقم لنا برهاناً عقلياً على أَنَّ الله ـ أو على أنَّ هذا الخَلْقَ له رب وله خالق وأنه موجود.

فتحير ونظر في هذه المسألة، ثم قال لهم: وجدتها.

فأقام البرهان بما يسمى عند أهله بحلول الأعراض في الأجسام.

وهو أصل الانحراف في مذهب الجهمية ثم المعتزلة ثم الأشاعرة والماتريدية.

ولهذا السلف يَنْسِبُونَ كل من انحرف في الصفات إلى جهم فيقولون هو جهمي؛ لأنَّه ما انحرف إلا بموافقته لجهم في هذا الأصل الذي أصَّلَهُ وانحرف به عن منهج السلف.

وهذه المسألة أو هذا البرهان الباطل - هو ليس ببرهان بل هو دليل باطل - قال في تقريره:

إنَّ الجسم تحُلُّ فيه الأعراض -الجسم هو المتحيز: كتاب متحيز، كرسي متحيز، مبنى متحيز، إلى آخره- الأجسام تحل فيها الأعراض.

والأعراض مثل البرودة، الحرارة، مثل الارتفاع، الانخفاض، مثل الطول العرض العمق، مثل الحركة فيه والتحرك إلى آخره، هذه الأشياء مَعْلُومٌ أنها لا توجد بنفسها وإنما وُجِدَتْ بالجسم.

والجسم حَلَّتْ فيه هذه الأعراض دون اختياره، فبهذا صار هذا الجسم جسماً محتاجا إلى العَرَض، لأَنَّ العرض وحده لا يقوم بنفسه وإنما يقوم بالأجسام.

وحلول الأعراض بالأجسام دلَّ على أنَّها مخلوقة وعلى أنَّهَا محتاجة لهذه الأشياء التي تميزها عن غيره وتصلح معها للوجود.

فلهذا صار الجسم قابلاً لحلول الأعراض فيه.

وصار إذاً الجسم محتاجاً لغيره فصار إذاً مخلوقا مُوجَدَاً.

إذا تبين هذا، قالوا له هذا دليل صحيح في أنَّ الجسم لم يُوجِدْ نفسه - يعني الجسم المعين، العين المعينة هذه - لم يوجد نفسه وأنه موجود واقتنعوا بهذا البرهان مع أنه في حقيقته غير مقنع وغير مستقيم، فأثبت لهم وجود خالق، وجود رب لهذه الأشياء.

فلما نظروا في هذا قالوا له: هذا دليل صحيح، فصِفْ لنا ربك.

كان جهم فَقِيْهاً عنده علم بالكتاب والسنة، ولما سألوه هذا السؤال، نظر في الصفات التي جاءت في الكتاب والسنة فتحيّر في أنّه لو أثبت هذه الصفات لعادت على هذا الدليل الذي لم يجد غيره في إثبات وجود الله عادت عليه بالإبطال.

لأنه وَجَدْ في الكتاب والسنة أنَّ من الصفات الاستواء، من الصفات العلو، من الصفات الرحمة، من الصفات الانتقام، من الصفات الإعطاء، من الصفات الغضب، من الصفات الرضا إلى آخره، وهذه كلها معاني لا تقوم بنفسها، وهي تأتي وتذهب يعني من حيث هي.

فلهذا قال إنه لو قال لهم إنَّ صفات الرحمن - عز وجل - هي التي جاءت في الكتاب والسنة على ظاهرها فإنه يعود إلى أن سيقال له: إذاً فالذي يتصف بهذه الصفات هو محتاج، إذاً هو مثل الجسم فهو جسم كالأجسام.

فلهذا قال لهم إنَّ الله سبحانه لا صفة له إلا صفة الوجود المطلق.

وعلى هذا الأصل مشى جهم في نفي الكلام ونفي جميع الصفات، حتى أسماء الرحمن - عز وجل - يفسرها بالآثار المخلوقة.

جاء بعده المعتزلة فقالوا هذا البرهان صحيح، ولكن ثمّ صفات دلّ عليها العقل لا يمكن أن يكون الرب - عز وجل - موجوداً دون هذه الصفات.

جاء الأشاعرة وقالوا كلام المعتزلة صحيح لكن الصفات أكثر من الثلاث التي أثبتها المعتزلة فهي سبع وتؤول إلى عشرين عندهم.

بعد ذلك جاء الماتريدية وقالوا الصفات ثمان، لابد من زيادة على السبع صفة التكوين وهكذا.

إذاً منشأ الضلال في هذه المسألة هو هذا البرهان الباطل على وجود الله - عز وجل - الذي جعل فيه دليل الأعراض هو الدليل على حدوث الأجسام، ومنه أبطل وصف الله - عز وجل - بصفاته ونفى الكلام.

ولهذا مسألة الكلام هي أعظم المسائل التي بُحِثَ فيها لأنه ورثها جهم من الجعد بن درهم وكانت أصل المسائل التي يفكر فيها من جهة الصفات، فلما أقام برهانه صارت هذه المسألة أو هذه الصفة من أوائل الصفات التي نفاها لأجل إقامة برهانه واستقامته.

إذا تبين لك ذلك فثَمَّ تعبيرات مختلفة عن منشئ الضلال في هذه المسألة-وكلها حق-:

فتارة تجد من يقول إنَّ منشأ الضلال هذه المسألة هو أنَّ إثبات صفة الكلام يستلزم التجسيم، وهي راجعة إلى ما ذكرنا.

ومنهم من يقول إنَّ صفة الكلام المضافة إلى الله صفة تشريف يعني إضافة تشريف لا إضافة صفة إلى موصوف.

وهذان القولان هما اللذان ذكرهما الشارح ابن أبي العز في هذا الموضع - يعني شبهة الذين قالوا إنَّ كلام الله - عز وجل - مخلوق -.

<<  <   >  >>