للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

[المسألة الخامسة] :

ارتبطت مسألة الوَلَاية -ولاية الله - عز وجل - للمؤمن العبد- بمسألة الكرامة، ولهذا أكثر من يتكلم عن الأولياء في صفاتهم وتقرير المُعْتَقَدْ فيهم لابد أن يتكلم عن الكرامات.

وهذه أشار إليها الطحاوي في قوله (وَأَكْرَمُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَطْوَعُهُمْ وَأَتْبَعُهُمْ لِلْقُرْآنِ) .

والكرامة هذه عُرِّفت بأنها: أمر خارق للعادة جرى على يدي ولي.

وهي متصلة بالآية والبرهان عند الأنبياء، وبالخوارق مُطلقاً عند الأنبياء والأولياء والكهنة والسحرة وأشباههم.

ولهذا فتعريف الكرامة بأنها أمرٌ خارقٌ للعادة جَرَى على يدي ولي متصلٌ بذلك:

أولا من كونها خارقة للعادة.

وثانيا هذه العادة عادة من؟

والثالث أنه جرى على يدي ولي.

فقولهم (أمر خارق للعادة جرى على يدي ولي) أخْرَجَ الخوارق التي تجري على أيدي الكهنة والسحرة، وأخْرَجَ الخوارق التي هي الآيات والبراهين والمعجزات التي تجري على أيدي الأنبياء.

لهذا يُقَرّرونَ في هذه المسألة أنواع الخوارق، وسيأتي في آخِرِ هذه العقيدة المباركة قول الطّحاوي (وَلاَ نُفَضِّلُ أَحَداً مِنَ الأوْلِيَاءِ عَلَى أَحَدٍ مِنَ الأَنْبِيَاءِ عَلَيْهمُ السَّلامُ، ونقولُ: نَبِيٌّ وَاحِدٌ أَفْضَلُ مِنْ جَمِيعِ الأوْلِيَاءِ. وَنُؤْمِنُ بِمَا جَاءَ مِنْ كَرَامَاتِهِم، وَصَحَّ عَنِ الثِّقَاتِ مِنْ رِوَايَاتِهِم) فنرجئ الكلام المُفَصَّلْ عن الكرامات وما يتعلق بها إلى موضعه.

لكن الذي يتصل بهذا البحث وهو أنَّ المؤمن ولي الرحمن أنّ الكرامة هذه التي يُفردُونها بالبحث هي ما اشتهر عند الناس أنها أَثَرُ الوَلاية، والكرامة عندهم أمرٌ خارق للعادة -مثل ما عرفناه لكم-.

وهذا ليس بدقيق؛ لأنَّ الكرامة بعضُ أنواع البشرى، والله - عز وجل - ذَكَرَ أنّه جعل لأوليائه البشرى فقال {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٢) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (٦٣) لَهُمْ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [يونس:٦٢-٦٣] .

و {الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} منها الإكرام بأمْرٍ خارقٍ للعادة يُجْريهُ الله لهذا الولي، قد يشعر به وقد لا يشعر، وقد يَتَفَطَّنْ لأثره وقد لا يَتَفَطَّنْ {إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ} [يوسف:١٠٠] ، لكن البشرى التي وعد الله - عز وجل - بها أولياءه إكراماً هذه كثيرة الأنواع وكثيرة الأسباب.

فالسلف اختلفوا في تفسير البُشْرَى واختلافهم من باب اختلاف التنوع؛ لأنَّ كلاً ذَكَرَ بِشارة:

١ - فمن البشارة وعد الله - عز وجل - بنصرة المؤمن التقي {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر:٥١] ، {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ} [محمد:٧] .

٢- كذلك البشرى في الدنيا بأنَّ الله - عز وجل - يثبته {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:٦٩] (١) .

: [[الشريط الواحد والثلاثون]] :

- من البشرى وعد الله - عز وجل - بمعيته لعبده، معية التوفيق والتأييد في كل موطن -في الحِجَاجْ باللسان أو في المُجَاهَدَة بالبدن أو في ترك مُشْتَهَيَات النفس والرغبة فيما عند الله - عز وجل -.?

- من البشرى التي ذُكِرَتْ في الآية الرؤية الصالحة كما ثَبَتَ في الصحيح «لم يبقَ من النبوة إلا المُبَشِّرَات الرؤية الصالحة يراها المؤمن أو تُرَى له» (٢) وقد رَأَى عدد من أهل العلم لبعض العلماء والأئمة أنَّهَم في الجنة وأنهم مع الأئمة أو مع النبي صلى الله عليه وسلم أو مع الصحابة ونحو ذلك، وهذه من المُبَشِّرَات.

- من البشرى في الحياة الدنيا أنَّ الله - عز وجل - يجعَلُ بعض الأعمال التي عَمِلُوها مُكَفِّرَةً لسيئاتهم -الكبائر والصغائر جميعاً-، كما تَفَضَّلَ الله - عز وجل - لأوليائه من الصحابة من أهل بدر فقال «اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» (٣) قال يقتضي مغفرة الكبائر والصغائر وهي التي غفرت لحاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه ما فعل من إسراره بخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ومَسِيرِهِ إلى مكة إلى الكَفَرَةْ من قريش.

فالبشرى إذاً أنواع عظيمة:

١ - وَعْدُ الله - عز وجل - بالجنة لعبده

٢ - توفيقه لمِحَبَّتِهِ للإيمان

٣ - محبته للعمل الصالح، محبته للقرآن

٤- انشراح صدره بالصلاة وبتلاوة كتابه

٥ - الأُنْسْ بالله جل جلاله والرغبة في ذلك والاشتياق إلى عبادة الرب سبحانه وتعالى والإسراع في ذلك

هذه كلها من أنواع البشرى التي يُبَشِّرُ الله - عز وجل - بها في ذلك.

فإذاً كرامة الله - عز وجل - لعبده بأن جَعَلَ الله له البُشْرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة، ومن البشارة هذه {لَهُمْ الْبُشْرَى} منها أنواع الكرامات.

لكن أنواع الكرامات قد تحصل وقد لا تحصل، قد تكون للولي وقد لا تكون.

كما سيأتي بَحْثُهُ من أنَّ الكرامة بحسب حاجة العبد إليها لا بِحَسَبْ إيمانه وتقواه.

يعني ليس بحسب رِفْعَةْ مقامه وأنَّهُ كلما ارتفع المقام أُعْطِيَ كرامة، لا، ولكن بحسب حاجته، وهذا له تفصيل إن شاء الله يُرْجَؤُ إلى موطنه، لكن هذ نوع من البشرى وأنواع البشرى التي للأولياء كثيرةٌ متنوعة.

- ومنها التسديد في السمع والبصر وما يكتبه بيده وما يمشي برجله كما جاء في حديث الولي قال «كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به» يعني أُسَدِّدُهُ وأُوَفِقُهُ في سمعه، فلا يأنس لسماع إلا ما يحبه الله، أُسَدِّدُهُ في بصره وأُوَفِقُهُ، فلا يأنس لنظر ولا إبصار إلا ما يحبه الله - عز وجل -، أُسَدِّدُهُ في يده التي يبطش بها فلا يبطش ولا يعتدي إلا بما أذن الله - عز وجل - به، أُسَدِّدُهُ وأُوَفِقُهُ في رجله في ممشاه فلا يمشي إلا ممشىً يحبه الله - عز وجل - ورسوله صلى الله عليه وسلم.

قال هنا «ورجله التي يمشي بها» يعني يكون فيما يُحِبُّ الله - عز وجل -.

وهذا أمر عظيم أن يكون إِلْفْ العبد ما يُحِبُّ الله - عز وجل -، ولا تُنَازِعُهُ نفسه للشر، لا تُنَازِعُهُ نفسه للمعصية، لا تُنَازِعُهُ نفسه لمخالفة الأمر وارتكاب المنهي، يكون إلفُهُ الخير وإلفُهُ ما يحبه الله - عز وجل -، هذا من إعانة الله - عز وجل - العبد على نفسه الأمارة بالسوء، وعلى قرينه الذي يأمره بالشر.

فهذا إذاً نوع من الإكرام وهي بُشْرَى يَحُسُّهَا العبد ويحمد الله - عز وجل - عليها ويسأله سبحانه وتعالى الثبات على ذلك.


(١) انتهى الشريط الثلاثون.
(٢) البخاري (٦٩٩٠)
(٣) سبق ذكره (٣٥٠)

<<  <   >  >>