فهذه الجملة من هذه العقيدة التي ألّفها العلاّمة أبو جعفر الطحاوي رحمه الله قال فيها (وَلَا نُجَادِلُ فِي الْقُرْآنِ، وَنَشْهَدُ أَنَّهُ كَلَامُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ، فَعَلَّمَهُ سَيِّدَ الْمُرْسَلِينَ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى لَا يُسَاوِيهِ شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ الْمَخْلُوقِينَ، وَلَا نَقُولُ بِخَلْقِهِ، وَلَا نُخَالِفُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ.) . وهذه الجملة مشتملة على عقيدة مباركة عظيمة في القرآن. والإيمان بالقرآن فرضٌ ورُكْنُ الإيمان؛ لأنَّ من أركان الإيمان الإيمان بكتب الله المنزلة، وأعظمها الكتاب الذي جعله الله مهيمناً على كل كتاب وهو هذا القرآن العظيم. فالإيمان به ركنُ الإيمان، والإيمان به عند أهل السنة والجماعة يشمل: - الإيمان بأنه كلام الله تعالى. - وأنه منزّل من رب العالمين. - وأنَّ محمدا صلى الله عليه وسلم عَلَّمَهُ إياه جبريل، وجبريل سَمِعَهُ من رب العالمين أوتقدست أسماؤه. - وأنَّ هذا القرآن لا يشبهه شيء من كلام المخلوقين، لا يماثله ولا يدانيه. - وأنه غير مخلوق؛ لأنه صفة الله عز وجل، وصفات الله سبحانه وتعالى كذاته العَلِيَّة، فهو سبحانه الخالق - عز وجل - وغيره مخلوق. وهذا التقرير من العلامة الطّحاوي مأخوذٌ من النصوص الكثيرة في الكتاب والسنة التي تدلّ على هذه الأصول كقوله - عز وجل - {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل:١٠٣] ، وكقوله - عز وجل - {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} [النحل:١٠٢] ، وكقوله سبحانه {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (١٩٢) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (١٩٣) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنْ الْمُنذِرِينَ (١٩٤) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء:١٩٢-١٩٥] ، وكقوله - عز وجل - {وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} [التوبة:٦] ، وغير ذلك من الآيات التي فيها أنَّ القرآن كلام الله، وأنه مُنَزَّلٌ من عنده وأنّ جبريل عليه السلام هو الذي نَزَلَ به على قلب محمد صلى الله عليه وسلم.
قال (وَلَا نُجَادِلُ فِي الْقُرْآنِ) المُجَادَلَةْ في القرآن دَلَّتْ السنة على أنها مذمومة ومحرّمة، وذلك كما روى مسلم في الصحيح أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم خَرَجَ عليهم يوما وهم يتجادلون في القرآن هذا ينزع بآية وهذا ينزع بآية، فكأنما فُقئ في وجهه حب الرمان -يعني من الغضب- عليه الصلاة والسلام فقال لهم «اقرؤوا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم فإذا اختلفتم فقوموا» (١) أو كما جاء عنه صلى الله عليه وسلم، وقد جاء أيضاً أنَّ نبينا صلى الله عليه وسلم نهى أن يَجْهَرَ بعض الناس على بعض في القراءة؛ وذلك لأجل التأدب مع القرآن وأن لا تكون القراءة سبباً للتخاصم أو للمجادلات؛ يعني بسبب القرآن أو في القرآن. والمِرَاءْ مذمومٌ مُطلقاً سواء أكان بحق أو بغير حق، وهو المُرَادُ به نُصْرَةُ النفس والاستعلاء، ولو كان بالقرآن، فلا نجادل في القرآن؛ يعني في أدلته، ولا نجادل في القرآن في صفته؛ بل نُسَلِّم للقرآن أنه كلام الله - عز وجل -، ونستسلم لدليل الرحمن - عز وجل -، فالقرآن آيات الرب سبحانه وتعالى. فالتجادل بالاختلاف في القرآن المبني على الأهواء هذا ليس من صفة أهل الإيمان، وإنما -كما سيأتي- المجادلة تكون لبيان الحق ولبيان وجه الدليل وهذا هو المحمود، فالمجادلة في القرآن مذمومة، ولهذا قال الطحاوي هنا (وَلَا نُجَادِلُ فِي الْقُرْآنِ) .
(وَنَشْهَدُ أَنَّهُ كَلَامُ رَبِّ الْعَالَمِينَ) يعني نُعلِنُ ونُخبِرْ مع اعتقادنا ويقيننا بأنه ليس كَلَامَ مَخْلُوقْ بل هو كلام رب العالمين؛ أي أنه كلام الله عز وجل
(نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ) الروح الأمين الذي هو جبريل، نزل به من رب العالمين، نزل به سَمَاعَاً، سَمِعَهُ جبريل عليه السلام من رب العالمين، وأمره الله - عز وجل - أن ينزل به وحياً على سيّد المرسلين (فَعَلَّمَهُ سَيِّدَ الْمُرْسَلِينَ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم) .
(وَلَا نَقُولُ بِخَلْقِهِ، وَلَا نُخَالِفُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ) هذا منه تقرير لما أجمع عليه أهل السنة، وذلك خلافاً للمعتزلة والعقلانيين والخوارج والرافضة الذين قالوا بخلق القرآن كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى. هذا الأصل الذي ذكره الطحاوي وهذه العقيدة المباركة تحتها مسائل: