للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

(وَالْإِيمَانُ وَاحِدٌ وَأَهْلُهُ فِي أَصْلِهِ سَوَاءٌ، وَالتَّفَاضُلُ بَيْنَهُمْ بِالْخَشْيَةِ وَالتُّقَى، وَمُخَالَفَةِ الْهَوَى، وَمُلَازَمَةِ الْأَوْلَى)


هذه العبارة منه تقريرٌ لكلام أبي حنيفة وأصحابه الذين يُسَمَّونَ مرجئة الفقهاء في أنَّ الإيمان واحد؛ يعني أنَّهُ في أصل وجوده شيءٌ واحد، إذا دَخَلَ في الإيمان دَخَلَ بشيءٍ واحد، إذا وُجِدَ سُمِّيَ مؤمناً وإذا لم يوجد لم يُسَمَّ مؤمنا.
وهذا القدر القليل الذي هو الأصل نظروا إليه بأنه شيء واحد وأنَّ أهله في أصله سواء.
يعني أنَّ أصل الإيمان يتساوى فيه المؤمنون، فجعلوا إيمان الناس كإيمان النبي صلى الله عليه وسلم، كإيمان أبي بكر، كإيمان محمد صلى الله عليه وسلم؛ بل كإيمان الرسل جميعاً بل جعلوه كإيمان الملائكة جميعاً.
لمَّا كان أصل الإيمان واحداً -يعني ما يحصل به الإيمان أول الأمر- جَعَلُوا أهله في أصله سواء.
وهذا كما ذكرتُ لك راجع إلى أنَّ التصديق عندهم، وما يتصل به من أعمال القلب أنه شيءٌ واحد، وقد نَصَّ على ذلك أبو حنيفة في كتابه الفقه الأكبر في أنَّ: التصديق واحد وأنَّ التوكل واحد والمحبة واحدة وأنَّ الخشية خشية القلب واحدة ونحو ذلك.
فجعلوا ما في القلب مما يَحصُلُ به الإيمان جعلوه شيئاً واحداً.
والذي دلت عليه الأدلة من الكتاب والسنة أنَّ أهل الإيمان متفاضلون فيما بينهم، فالله - عز وجل - فَضَّلَ بعض الرسل على بعض فقال سبحانه {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} [البقرة:٢٥٣] . وتفضيل بعضهم على بعض نتيجة وسبب ونتيجة لسبب وهو تفاضلهم في الإيمان.
فالرسل منهم أولوا العزم وهم أعظم الرسل مقاماً وأرفع الرسل مكانَةً {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنْ الرُّسُلِ} [الأحقاف:٣٥] ، فالرسل ليسوا في منزلةٍ واحدة عند الله - عز وجل -.
والتفاضل هنا يكون بالإيمان -بإيمان القلب- ويكون بإيمان الجوارح بفعلها.
وهنا جَعَلْ الطحاوي التفاضل بالأمور الظاهرة قال (بِالْخَشْيَةِ وَالتُّقَى، وَمُخَالَفَةِ الْهَوَى، وَمُلَازَمَةِ الْأَوْلَى) ولكن هذا التفاضل هو بعض التفاضل؛ لكن القلب يكون بين هذا وهذا من التفاضل في أعمال القلوب وفي تصديق القلب ما ليس بمحدود.
ولهذا خصّ الله - عز وجل - أبا بكر الصديق رضي الله عنه بأنه صَدَّقَ من بين سائر الصحابة، فقال - عز وجل - {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُتَّقُونَ} [الزمر:٣٣] ، فخَصَّهُ بالتصديق لأنَّ عنده تصديقاً زائداً عن غيره، وكذلك قوله - عز وجل - في سورة الليل {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (١٧) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (١٨) وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (١٩) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى} [الليل:١٧-٢٠] فهذا الابتغاء الذي هو أصل الدخول في الدين الذي هو ابتغاء ما عند الله - عز وجل - خُصَّ به أبو بكر لأنَّ له في ذلك مزيداً ليس لغيره.
لهذا قال صلى الله عليه وسلم «لو وُزن إيمان الأمة بإيمان أبي بكر لرَجَح إيمان أبي بكر» (١) وقال أيضاً التابعي الجليل أبو بكر شعبة القارئ المعروف (ما سبقهم أبو بكر بكثرة صدقة ولا صلاة ولكن بشيء وقر في قلبه) (٢) .
هذا الشَّيء الذي وَقَرَ في القلب الذي هو التصديق، الناس يعرفون أنَّ فلاناً وفلاناً من جهة تصديقهم للخبر يختلفون -أي خبر-.
فيأتي ثقة إلى أناس فيقول هذا حاصل، فهذا مُصَدِّقٌ وهذا مُصَدِّقٌ؛ لكن تصديق الأول يختلف عن تصديق الثاني من حيث قوته، من حيث الجزم به بقوة وثبات ويقين.
ولهذا أبو بكر رضي الله عنه حصل له من المقامات كما هو معروف في السيرة ما ليس لغيره.
هذا التصديق أيضاً فيه أشياء تؤثر فيه من جهة التفاضل كما سيأتي بيانه.
إذاً كلام الطحاوي فيما سمعت جعل التفاضُلَ بأمورٍ خارجة عن تصديق القلب، عن اعتقاد القلب، جعلها، الخشية الظاهرة والتقوى الظاهرة ومخالفة الهوى وملازمة الأَوْلى بامتثال الأوامر واجتناب النواهي.
إذا تبين هذا فنذكر على هذا عدة مسائل:

<<  <   >  >>