[المسألة الرابعة] :
تلحَظُ أَنَّ حديث عبد الله بن عمرو فيه قال «قدر الله مقادير الخلائق» ولما قَدَّرْ -يعني كتب- كان عرشه على الماء.
وفي حديث عبادة قال «إن الله أول ما خلق الله القلم فقال له أكتب» فيقتضي حديث عبادة أنَّ الأمر بالكتابة كان مُرَتَّباً على ابتداء خلق القلم.
وتقدير القَدَرْ كان قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة والعرش على الماء.
فدل حديث عبد الله بن عمرو على وجود تقدير وعلى وجود العرش -خلق العرش- وعلى خلق الماء.
ودلَّ حديث عبادة على أنَّ خَلْقْ القلم تَبِعَهُ قول الله - عز وجل - للقلم أكتب فجرى بما هو كائن إلى قيام الساعة.
وهذا الترتيب جاء في حرف الفاء الذي يدل في مثل هذا السياق على أنَّ هذا بعد هذا دون تراخٍ زمني.
ولهذا اختلف العلماء في هذه المسألة في الجمع بين هذين الحديثين هل القلم هو أول المخلوقات أم العرش خُلِقَ قبله على قولين للسلف فمن بعدهم:
١- القول الأول: إنَّ العرش قبل القلم وكذلك الماء قبل القلم.
والقول الأول هو قول جمهور السلف كما نسب ذلك إليهم شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره.
٢- القول الثاني أنَّ القلم هو أول المخلوقات والعرش والماء بعد ذلك وهو قول طائفة من أهل العلم.
الترجيح ما بين هذين القولين هو أنَّ الأحاديث يجب الجمع بينها وعدم تعارضها.
وحديث عبادة بن الصامت في قوله صلى الله عليه وسلم «إن أول ما خلق الله القلم فقال له أكتب» يقتضي أنَّ الكتابة كانت بعد خلقه.
وحديث عبد الله بن عمرو يقتضي تقدم وجود العرش والماء على حصول الكتابة.
فدلّ هذان الحديثان على أنَّ العرش والماء موجودان قبل، وأنَّ خلق القلم تبعته الكتابة.
ولهذا نسبه شيخ الإسلام إلى جمهور السلف بأنَّ القلم موجود بعد العرش والماء.
وهذا تدل عليه رواية «أَوَلَ ما خلق الله القلم قال له أكتب» يعني حين.
«أَوَلَ» بمعنى حين.
«أَوَّلَ ما خلق الله القلم قال له أكتب» حين خَلَقَهُ قال له أكتب.
وهذا هو معنى «إن أَوَلَ ما خلقه الله القلم فقال له أكتب» لأنَّ الجمع بين الروايات أولى من تعارضها.
وقد ذكر ابن القيم رحمه الله في كتابه التِّبْيَان أنَّ قوله «إن أَوَلَ ما خلق الله القلم» ورواية «أَوَلَ ما خلق الله القلم» إما أن تُجعل جملتين أو جملة واحدة.
وقد ذكر هذا النقل شارح الطحاوية فترجع إليه.
وخلاصة البحث هو ما ذكرت لك من التقدير، فإن قوله «إن أَوَلَ ما خلق اللهُ القلمُ» هنا برفع القلم يكون خبر (إنَّ) .
يعني: إنَّ أَوَلَ الذي خلق الله، إن أَوَلَ المخلوقات القلمُ فقال له أكتب.
وإذا كان أَوَّلْ المخلوقات فكيف يُفَسَّرْ مع حديث «وكان عرشه على الماء» الذي ذكرته لك.
فقوله إنَّ أَوَّلَ المخلوقات أو أَوَّلَ ما خلق الله أو أَوَّلَ الذي خلقه الله، يُفهم على أنَّ القلم جرى بما هو كائن إلى قيام الساعة قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة.
فالقلم متعلّق بما كُتِبَ في اللوح المحفوظ، مُتَعَلِّقاً بما يحدث في هذا العالم المخصوص لا في مطلق الأشياء، ولهذا عُلِّقْ بأنه إلى قيام الساعة.
فإذاً يُفهم لمَّا كان تعلق الكتابة بهذا العالم الذي جرى التقدير عليه إلى قيام الساعة، يُفهم أنَّ القلم لمَّا تَعَلَّقَ بهذا العالم كتابةً لِتَقْدِيرِهِ ولِقَدَرِهِ ولآجاله إلى آخره فإنه من هذا العالم؛ لأنّ العوالم أجناس والله - عز وجل - جعل لمخلوقاته أقدارا وأجناسا.
فإذاً يُفهم قوله «إن أَوَّلَ ما خلق الله القلم» يعني من هذا العالم.
فالقلم قبل السموات وقبل الأرض وقبل الدخان المتعلِّق الذي خُلِقَ منه السموات والأرض وكل ما يتصل بهذا العالم المرئي المُشاهَدْ، فالقلم هو أول المخلوقات أما العرش والماء فليسا مُتَعَلِّقَينِ بهذا العالم.
فإذاً إعمال الحديثين مع ما يتّفق مع عقيدة أهل السنة والجماعة واضح لا إشكال فيه، فيكون ذلك هو تقرير هذه المسألة.
وقد لخّص ابن القيم المسألة في نونيته وبحثها مفصلاً في كتابه التبيان في أقسام القرآن، وفي غيره فقال في النونية رحمه الله:
والناس مختلفون في القلم الذي ****** كتب القضاء به من الديان
هل كان قبل العرش أو بعده ****** قولان عند أبى العلا الهمذاني
والحق أن العرش قبل لأنه ****** عند الكتابة كان ذا أركان
وهذا القول كما ترى من تقريره مع دليله هو الصحيح، وهو الموافق لفقه النص وفقه خلق العالم وآثار فعل الله - عز وجل - في ملكوته، ومتّفق مع القول بأن الله - عز وجل - فعَّالٌ لما يريد، وأن قَبْلَ هذا العالم ثَمَّ عوالم أخرى، والله - عز وجل - يخلق ما يشاء ويختار، وأنّه ثَم أشياء أخرى بعد قيام الساعة، والقلم مُتَقَيِّدٌ بما خلقه الله - عز وجل - له، والله سبحانه له الأمر كله يقضي ما يشاء ويحكم ما يريد سبحانه وتعالى.