للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

[المسألة الرابعة] :

أنَّ هذا الإسم أهل القبلة واسم المسلم والمؤمن لابد من بقاء ما دلَّ عليه، وهذا هو ما ذَكَرَهُ بعد ذلك بقوله (مَا دَامُوا بِمَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُعْتَرِفِينَ، وَلَهُ بِكُلِّ مَا قَالَ وَأَخْبَرَ مُصَدِّقِينَ) يعني أنَّهُ لو ارْتَكَبَ مُكَفِّرَاً فإنه يَخْرُجُ من اسمه مسلم ومن اسمه مؤمن ولو استقبل القبلة، ولو كان السجود في جبهته فإنَّهُ ما دام أنه ثَبَتَ عنه بيقين ما حَكَمَ عليه عالم أو قاضي بكفره فإنه يكون حينئذ ليس له حكم المسلم المؤمن ولو كان مستقبل القبلة.

قال (مَا دَامُوا بِمَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُعْتَرِفِينَ)

معنى الاعتراف هنا هو الإقرار بأنَّ ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم في كل مسألة حق.

لكن فَرْقٌ هنا ما بين الجحد وما بين التأويل:

فإنَّ من جحد أمراً جاء به النبي صلى الله عليه وسلم وكان ثابِتَاً عن النبي صلى الله عليه وسلم وكانت دلالته قطعية فإنه يكفر بذلك، مثل «عثمان في الجنة» (١) هذا دلالته قطعية «عثمان في الجنة» ما تحتمل معنى آخر، فإذا قال: لا، هذا لا يدل على أنه يُحْكَمْ له بالجنة، لا أنا ما أحكم لعثمان بالجنة مع أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم حَكَمَ له، أنا أَرُدْ كون عثمان رضي الله عنه في الجنة، لا أدري هو من أهل الجنة أو من أهل النار، هذا ردٌّ لخبر دلالته قطعية.

فإذاً قوله (مَا دَامُوا بِمَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُعْتَرِفِينَ) هنا الاعتراف بمعنى الإقرار بهذا الخبر وبما جاء به صلى الله عليه وسلم.

* وهذا الإقرار فيما كانت دلالته قطعية، أما إذا كانت دلالته محتملة وصار ثَمَّ للتأويل مَسْرَحْ؛ فإنه لا يُسلب عنه اسم الإسلام والإيمان.

ولهذا نصَّ أهل العلم من أئمة الدَّعوة ومن غيرهم على أنَّ متأولة الصفات ليسوا كمنكري الصفات، يعني ليس الأشاعرة مثل الجهمية، ليس المعتزلة مثل الجهمية في هذا الباب، الصفاتية الذين أثبتوا أصل الصفات وتأَوَّلُوا بعضاً هؤلاء لهم شُبْهَة التأويل فلم يُكَفِّرْهُمْ أهل السنة والجماعة في هذا الباب؛ لأنّهم معترفون بأصل ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب؛ لكن تَأَوَّلُوهُ إلى جهةٍ أخرى.

فإذاً يُفَرَّقْ هنا ما بين الرد وما بين التأويل، فالاعتراف هو الإقرار.

* كذلك يُفَرَّقُ هنا ما بين الإقرار الذي يقابله الجحد، وما بين الإلتزام الذي يقابله الامتناع:

١- أولاً (الإقرار أو الإعتراف) الذي يقابله الجحد:

فالاعتراف الذي هُوَ الإقرار يقابله الجحد، يقالُ أَقَرَّ واعترف أو حَجَدْ.

أقر بأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بكذا، أو حَجَدَ أنَّ الصلاة واجبة، جَحَدَ أَنَّ الزكاة واجبة، جَحَدَ أَنَّ أَكْلْ نوع من المأكولات المباحة أنَّهُ حلال، جَحَدَ أن الخمر محرم، فهذا جحد يناقض الإعتراف، يعني أصلاً ما يقر بالتحريم أصلاً.

٢- ثانياً الإلتزام الذي يقابله الإمتناع:

قد يُقرُّ ولكنه لا يلتزم.

وقد لا يجحد ولكنه يمتنع.

والالتزام واجب والامتناع مُكَفِّرْ.

ما معنى الامتناع؟

الامتناع أن يقول: أنا لا أدخل في هذا الخطاب، وهذا معنى قول العلماء: الطائفة الممتنعة، وقول إذا امتنع أحد عن كذا يعني لم يلتزم، فَجَعَلَ فِعْلَهُ غير داخل في هذا الخطاب.

مثل حديث أبي بردة بن نيار المعروف (أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم بعثه في رجل نكح امرأة أبيه فأمره أن يقتله وأن يُخَمِّسَ ماله) (٢) .

هذا رجل نَكَحَ امرأة أبيه، الفعل معصية كبيرة، كبيرة بشعة أن ينكح امرأة أبيه؛ لكن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يقتله وأن يخمّس ماله؛ يعني جعله مرتداً لم؟

لا لكونه جَحَدَ ولكن لكونه امتنع.

فإذاً هنا في الاعتراف (مَا دَامُوا مُعْتَرِفِينَ) :

- فيه الإقرار ويقابله الجحد.

- وفيه الالتزام ويقابله الامتناع

الالتزام: أن يعتقد أنه مخاطب.

والامتناع: أنا غير مخاطب بذلك، مثل فعل مانعي الزكاة، فيقولون: الزكاة واجبة وأَدُّوهَا لكن نحن بذاتنا لا نحن لسنا داخلين في هذا الخطاب.

فالرجل ظَنَّ أنه لا يدخل في هذا الخطاب في قوله - عز وجل - {وَلَا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنْ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا} [النساء:٢٢] ، فهو مُقِرٌّ بوجوبها بدخوله في الإسلام أصلاً، مُقِرٌّ بهذه الآية بدخوله؛ لكنه امْتَنَعَ من الالتزام بها لأجل أنَّ هذه كانت فِعْلَةْ أهل الجاهلية، فكان من إكرام الرّجل لأبيه أن ينكح امرأة أبيه لأنَّ هذا يدل على بِرِّهِ، يدل على صلته، ويدل على شرفه، ويدل على أشياء عندهم، فلما أنَّهُ امتنع، يعني كان أَخَذَهُ إذاً مَأْخَذْ الحكم الجاهلي ما دام أنه لم يلتزم.

إذاً في هذه الصورة لم يلتزم -هو مقر معترف- لكنه لم يلتزم، بمعنى امتنع.

وليست المسألة مسألة تكفير بالعمل أو أن فِعْلَهُ دَلَّ على استحلاله.

ليست من هذا الباب، إنما هي من باب الامتناع فمن عَرَفَ واقع أهل الجاهلية في نكاح امرأة الأب إلى آخره وسبب نزول الآية ودلالة ذلك عرف.

المقصود من هذا أنَّ قول الطحاوي (مَا دَامُوا بِمَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ صلى صلى الله عليه وسلم مُعْتَرِفِينَ) :

الاعتراف هو الإقرار، والإقرار يقابله الجحد.

ويأتي الكلام على الاستحلال في قوله (وَلَا نُكَفِّرُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ بِذَنْبٍ، مَا لَمْ يَسْتَحِلَّهُ) .

فإذاً صارت عندك هنا أنَّ النسبة إلى الإسلام، النسبة إلى أهل القبلة يأتي الخروج منها بأشياء.

وأما العمل فيأتي الكلام عليه (وَلَا نُكَفِّرُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ بِذَنْبٍ، مَا لَمْ يَسْتَحِلَّهُ) .

لهذا هنا علقها بالاعتقادات (مَا دَامُوا بِمَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُعْتَرِفِينَ، وَلَهُ بِكُلِّ مَا قَالَهُ وَأَخْبَرَ مُصَدِّقِينَ) .


(١) أبو داود (٤٦٤٩) / الترمذي (٣٧٤٧) / ابن ماجه (١٣٣)
(٢) أبو داود (٤٤٥٧) / النسائي (٣٣٣٢)

<<  <   >  >>