وعلى خلاف العادة في المختصرات والمتون التي يراد حفظها وانتشارها فإنه قد أفاض في الكلام مما لا يدخل كله في ضمن القواعد والأصول والعقائد، وإنما فيه جمل من ذلك وأكثره تفصيل وزيادة في البيان. ولهذا سنطوي -إن شاء الله- بيان الجمل على تفاصيلها، ونذكر ما اشتملت عليه من العلوم والعقائد؛ لأنّ المقصود هو العلم والإيمان بقَدَرِ الله - عز وجل - ومعرفة منهج السلف الصالح وعقيدة أهل السنة والجماعة في هذه المسائل العظام. لمَّا ذَكَرَ ما ذَكَرْ، وقد ذكرنا لكم جُمَلَاً من المسائل التي بها تعلم اعتقاد أهل السنة والجماعة في قضاء الله - عز وجل - وقدره.
قال بعدها (فَهَذَا جُمْلَةُ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مَنْ هُوَ مُنَوَّرٌ قَلْبُهُ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهِيَ دَرَجَةُ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ عِلْمَانِ: عِلْمٌ فِي الْخَلْقِ مَوْجُودٌ، وَعِلْمٌ فِي الْخَلْقِ مَفْقُودٌ) أراد بذلك أنّ ما ذَكَرَه في القَدَرْ وما ذكرناه لك من المسائل هذا من العلم الذي عَلّمنا ربنا - عز وجل - ورسوله - صلى الله عليه وسلم - مع أنَّ الأصل أن القدر سِرُّ الله تعالى وغيبه الذي لم يُطْلِعْ عليه مَلَكٌ مقرب ولا نبي مرسل. ولهذا أمر نبيُّنا صلى الله عليه وسلم بأنه إذا ذُكِرَ القَدَرْ أمسكنا فقال صلى الله عليه وسلم «وإذا ذكر القَدَرْ فأمسكوا» (١) يعني أمسكوا عن الخوض فيه بما لم تُوقَفُوا فيه على علم. فعلم القَدَرْ نوعان: - علم في الخلق موجود. - وعلم في الخلق مفقود. وهذا التفسير أنسب عندي لأجل أن نُعَلِّقَ تقسيم العلم إلى علم موجود وعلم مفقود فيما يتصل بالقَدَرْ لا في أصل العلوم؛ لأنه أشار في ذلك إلى ما سبق فقال (فَهَذَا جُمْلَةُ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مَنْ هُوَ مُنَوَّرٌ قَلْبُهُ) . ومعلومٌ أنه لم يذكر كل ما يحتاج إليه من هو منوّر قلبه في مسائل العقائد؛ لأنه بقي كثير ستأتي في هذه الرسالة. فإرجاع قوله (فَهَذَا جُمْلَةُ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مَنْ هُوَ مُنَوَّرٌ قَلْبُهُ) إلى مسائل القَدَرْ منضبط. أما إذا قيل إنه إلى علم العقيدة جميعاً فإنه لم يذكر أشياء كثيرة وستأتي بعد الكلام على مسائل القدر كما ستراه إن شاء الله تعالى. فإذاً نقول: إنَّ الطحاوي رحمه الله أراد أنَّ العلم بالقَدَرْ على نوعين: علم في الخلق موجود: وهو ما عَلَّمَنَا الله - عز وجل - إياه في كتابه وما علمنا رسوله صلى الله عليه وسلم.
(وهذا كما قال (فَإِنْكَارُ الْعِلْمِ الْمَوْجُودِ كُفْرٌ) إذا تبين أنَّهُ من عند الله - عز وجل - وليس ثَمَّ شبهة ولا تأويل فإنّ إنكار العلم الموجود كفر؛ لأنه تكذيب لله - عز وجل - ولرسوله صلى الله عليه وسلم. والعلم الموجود في القَدَرْ كما رأيت مما جاء في الكتاب والسنة يعلَمُهُ الراسخون في العلم، وأما من ليس بذي رُسُوخٍ في العلم فإنه في مسائل القَدَرْ لا يزال على اشتباه وعلى عدم وضوح. فالواجب على من لم يكن من الراسخين في العلم من عامة أهل الإيمان أن يقول {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا} [آل عمران:٧] ، كما وصف الله - عز وجل - الراسخين مع علمهم أنهم قالوا ذلك ليقْتَدِيَ بهم الناس فيما لم يعلموا، قال سبحانه {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} ، يعني آمنا بالمُحْكَمْ وآمنا بالمتشابه كلّ من عند الله - عز وجل - لا نفرق بين كلام الله - عز وجل -. {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} هم أهل الثُّبُوتْ والقوة في العلم الموروث عن النبي صلى الله عليه وسلم، لأنَّ الرسوخ هو الثبات والاستقرار والقوة والتمكن. فهؤلاء يعلمون لأنَّ وصفهم بكونهم راسخين يقتضي أنهم يعلمون؛ لأنَّ الذي لا يعلم لا يُوصَفْ بالرسوخ في العلم، وهم متميزون عن غيرهم بالعلم والإيمان. والرُّسُوخُ في العلم هو الرُّسُوخُ في أنواع العلم الثلاثة: ١ - العلم بالتوحيد. ٢ - العلم بالفقه. ٣ - العلم باليوم الآخر والغيبيات. فهؤلاء هم الراسخون في العلم، وقد يكون الرُّسُوخُ في العلم يتنوع أيضاً ولكن من لم يصحّ علمه بالتوحيد فإنه ليس بذي رسوخ في العلم مهما كان، لأنَّ أصل الأصول هو الاعتقاد، أصل الأصول هو التوحيد الذي معه يصح الفقه، يصح العمل، تصح العبادة، يصح الحكم والإفتاء إلى آخره. فإذاً أهل الرسوخ في العلم يعلمون أنَّ العلم-مما في القَدَرْ- علمان: علم في الخلق موجود، يعني جعله الله - عز وجل - موجوداً في الخلق بما أنزل في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم. وشيء كثير من مسائل القَدَرْ حجبها الله - عز وجل -. لهذا فإنَّ أهل الرسوخ في العلم يبسطون من مسائل القَدَرْ بما جاء في الأدلة، ويطوون من مسائل القَدَرْ ما لم يأتِ في الأدلة. ولذلك كل ما لم يكن مبسوطَاً عند أهل العلم الراسخين من أهل الحديث والسنة والجماعة، فإنَّ هذا العلم -يعني الذي تكلم فيه الآخرون- ينبغي أن لا يتكلم فيه كل أحد. لأنَّ ما طوى الله - عز وجل - عنا عِلْمَهُ فإنَّ الخير في أن لا نبحث فيه، لهذا قال (وَالتَّعَمُّقُ وَالنَّظَرُ فِي ذَلِكَ) يعني في النوع الذي هو من العلم المفقود (ذَرِيعَةُ الْخِذْلَانِ، وَسُلَّمُ الْحِرْمَانِ، وَدَرَجَةُ الطُّغْيَانِ، فَالْحَذَرَ كُلَّ الْحَذَرِ مِنْ ذَلِكَ نَظَرًا وَفِكْرًا وَوَسْوَسَةً، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى طَوَى عِلْمَ الْقَدَرِ عَنْ أَنَامِهِ، وَنَهَاهُمْ عَنْ مَرَامِهِ) .
قال الطحاوي رحمه الله (وَادِّعَاءُ الْعِلْمِ الْمَفْقُودِ كُفْرٌ) لأنه غيبي، ومن ادََّعَى الغيب الذي اختصَّ الله - عز وجل - به فإنه كافر، وذلك لقوله - عز وجل - {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (٢٦) إِلَّا مَنْ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدَا (٢٧) لِيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا} [الجن:٢٦-٢٨] ، - جل جلاله - وقال سبحانه {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} [الأنعام:٥٩] . وقال - عز وجل - {إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ (٢) وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [لقمان:٣٤] ، فهذه الخمس اختصّ الله - عز وجل - بها. لهذا علم القَدَرْ من علم الغيب، وعلم الغيب عام يشمل القَدَرْ ويشمل غيره.
لهذا قال رحمه الله (وَلَا يَثْبُتُ الْإِيمَانُ إِلَّا بِقَبُولِ الْعِلْمِ الْمَوْجُودِ، وَتَرْكِ طَلَبِ الْعِلْمِ الْمَفْقُودِ.) فالمؤمن الحق لا يخوض في القَدَرْ إلا بحثاً عن العلم الموجود فيؤمن به وأما العلم المفقود فيترك طلبه.