[المسألة الثالثة] :
أقوال الناس في إعجاز القرآن.
مسألة إعجاز القرآن -كما ذكرنا- لها صلة بدلائل النبوة.
والقرآن مُعْجِزْ لمن؟
للجن والإنس جميعاً؛ بل معجز لكل المخلوقات، لم؟
لأنه كلام الله - عز وجل -، وكلام الله - عز وجل - لا يشبه كلام الخلق، وكون القرآن معْجِزَاً، راجع إلى أشياء كثيرة يأتي فيها البيان.
فاختلف الناس في وجه الإعجاز لأجل أَنَّ إعجاز القرآن دليل نبوة النبي صلى الله عليه وسلم في أقوال:
١ - القول الأول:
ذهب إليه طائفة من المعتزلة ومن غيرهم حتى من المعاصرين الذين تأثروا بالمدرسة العقلية في الصفات والكلام، قالوا:
إنَّ الإعجاز في القرآن إنما هو بصرف البشر عن معارضته، وإلا فالعرب قادرة على معارضته في الأصل؛ لكنهم صُرِفُوا عن معارضته، فهذا الصرف هو قدرة الله - عز وجل -، لا يمكن للنبي صلى الله عليه وسلم أن يصرفهم جميعاً عن معارضته.
وهذا الصرف لابد أن يكون من قوة تَمْلِكُ هؤلاء جميعا وهي قوة الله - عز وجل -.
فإذاً الصَّرْفَةْ التي تسمع عنها، القول بالصَّرْفَةْ؛ يعني أنَّ الله صَرَفَ البشر عن معارضة هذا القرآن، وإلا فإنَّ العرب قادرون على المعارضة.
وهذا القول هو القول المشهور الذي ينسب للنّظّام وجماعة بما هو معلوم.
وهذا القول يرده أشياء نقتصر منها على دليلين:
- الدليل الأول سمعي نقلي من القرآن.
- والدليل الثاني عقلي.
@ أما الدليل الأول وهو الدليل القرآني: فهو قول الله - عز وجل - {قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء:٨٨] ، فالله - عز وجل - أثْبَتَ أَنَّ الإنس والجن لو اجتمعت على أنْ تأتي بمثل هذا القرآن وصار بعضهم لبعض معيناً في الإتيان بمثل هذا القرآن أنهم لن يأتوا بمثله، وهذا إثبات لقدرتهم على ذلك؛ لأنَّ اجتماعهم مع سلب القدرة عنهم بمنزلة اجتماع الأموات لتحصيل شيء من الأشياء.
فالله - عز وجل - بيّنَ أنهم لو اجتمعوا على أن يأتوا بمثل هذا القرآن وكان بعضهم لبعض معيناً وظهيرا على المعارضة، فإنهم لن يستطيعوا أن يأتوا بمثل هذا القرآن.
فأثْبَتَ لهم القدرة لو اجتمعوا قادرين وبعضهم لبعض يعين، لكنهم سيعجزون مع قُدَرِتهم التي ستجتمع وسيكون بعضهم لبعض معيناً على المعارضة.
وهذه الآية هي التي احتج بها المعتزلة على إعجاز القرآن، ففيها الدليل ضدهم على بطلان الصَّرْفَةْ.
@ أما الدليل الثاني وهو الدليل العقلي: أنَّ الأمة أجمعت من جميع الفرق والمذاهب أنَّ الإعجاز يُنْسَبْ ويضاف إلى القرآن ولا يضاف إلى الله - عز وجل -.
فلا يقال إعجاز الله بالقرآن، وإنما يقال باتفاق الجميع وبلا خلاف هو إعجاز القرآن.
فإضافة الإعجاز إلى القرآن تدل على أنَّ القرآن مُعْجِزٌ في نفسه، وليس الإعجاز من الله بصفة القدرة.
لأننا لو قلنا الإعجاز إعجاز الله بقدرته الناس عن الإتيان بمثل هذا القرآن، فيكون الإعجاز بأمر خارج عن القرآن.
فلما أجمعت الأمة من جميع الفئات والمذاهب على أنّ الإعجاز وصْفٌ للقرآن علمنا بُطلان أن يكون الإعجاز صفة لقدرة الله - عز وجل -؛ لأنّْ من قال بالصرفة بأنّْ الله سلبهم القدرة هذا راجِعٌ الإعجاز -يعني تعجيز أولئك- راجع إلى صفة القدرة وهذه صفة ربوبية.
فإذاً لا يكون القرآن مُعْجِزَاً في نفسه، وإنما تكون المعجزة في قدرة الله - عز وجل - على ذلك.
وهذا لاشك أنه دليل قوي في إبطال قول هؤلاء.
لهذا المعتزلة المتأخرون ذهبوا على خلاف قول المتقدمين في الإعجاز بالصرفة؛ لأنَّ قولهم لا يستقيم لا نقلاً ولا عقلاً.
٢ - القول الثاني:
من قال القرآن مُعْجِزٌ بألفاظه، فألفاظ القرآن بلغت المنتهى في الفصاحة؛ لأنَّ البلاغيين يُعَرِّفُونَ الفصاحة بقولهم:
فصاحة المفرد في سلامته من نُفرة فيه ومن غرابته
فالقرآن مشتمل على أعلا الفصيح في الألفاظ.
ولما تأمل أصحاب هذا القول جميع كلام العرب في خطبهم وأشعارهم، وجدوا أنَّ كلام المتكلم لابد أن يشتمل على لفظ داني في الفصاحة، ولا يستقيم في كلام أي أحد -في المعلقات ولا في خطب العرب ولا في نثرهم ولا في مراسلاتهم إلى آخره- لا يستقيم أن يكون كلامهم دائماً في أعلى الفصاحة، فنظروا إلى هذه الجهة فقالوا الفصاحة هي دليل إعجاز القرآن لأنَّ العرب عاجزون.
وهذا ليس بجيد؛ لأنَّ القرآن اسم للألفاظ والمعاني، فالله - عز وجل - تَحَدَّى أن يُؤْتَى بمثل هذا القرآن، أو بمثل عشر سور مثله مفتريات -كما زعموا- وهذه المثلية إنما هي باللفظ وبالمعنى جميعاً وبصورة الكلام المتركبة.
فإذاً كونه مُعْجِزَاً بألفاظه نعم لكن ليس وجه الإعجاز الألفاظ وحدها.
٣ - القول الثالث:
من قال إنَّ الإعجاز في المعاني وأما الألفاظ فهي على قارعة الطريق.