[المسألة العاشرة] :
وهي في إثبات الأسباب، وأنَّ أفعال الله - عز وجل - مُعَلَّلَة، وأنَّ الله سبحانه وتعالى يفعل الفعل لعِلَّة، ويأمر بالأمر لعلة.
وهذه العلة هي حكمته - عز وجل - لإيجاد ذلك الشّيء.
وهذا في الأمور الكونية وفي الأمور الشرعية.
فما أحْدَثَهٌ الله - عز وجل - في ملكوته أمْراً فَحَدَثْ فَلَهُ حِكْمَة - عز وجل - من إيجاده.
وما أَمَرَ الله - عز وجل - به في الشرع من الأحكام التشريعية أو نهى عنه فهو لعلة.
فالله سبحانه يأمر في الشرع بما مصلحته راجحة أو تامة، وينهى في الشرع عن ما مفسدته تامة أو راجحة.
فإذاً أهل السنة والجماعة يُثبتون التعليل في أفعال الله - عز وجل -، وأنّ أفعال الله سبحانه وتعالى الكونية وأوامره الكونية والشرعية كلّها مرتبطة بِحِكَمْ عظيمة كما قال سبحانه {حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ} [القمر:٥] .
إذا تبين ذلك ففي القرآن إثبات أفعال الله - عز وجل - مُعَلَّلَة، وتنزيه الله - عز وجل - عن أن يفعل الفعل لا لعلة كما قال سبحانه {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ (١٦) لَوْ أَرَدْنَا أَن نَتَّخِذَ لَهْوًا لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ (١٧) بَلْ نَقْذِفُ بِالحَقِّ عَلَى البَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإذَا هُوَ زَاهِقٌ} [الأنبياء:١٦-١٨] .
وقال أيضاً - عز وجل - للسموات والأرض {مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلاَّ بِالحَقِّ} [الدخان:٣٩] ، وقال - عز وجل - {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [الحج:٦٢] ، وفي الأشياء الشرعية -الأوامر والنواهي- الأدلة على التعليل كثيرة جدّاً جداً.
المقصود من هذا أنَّ الله سبحانه وتعالى إذا كانت أفعاله مُعَلَّلَة، فأفعاله - عز وجل - لم يفعلها في مخلوقاته مباشرة دون وسائط؛ بل جَعَلَ الله - عز وجل - إيصال الفعل إلى نهايته مَنُوطَاً بأسباب، وكلُّ سَبَبٍ يُحدِثُ مُسَبَّبَاً.
ولهذا قال أهل السنة بإثبات التعليل في أفعال الله - عز وجل - والأسباب.
وأما أهل البدع من الجبرية وغيرهم فإنهم ينفون العِلَلْ وبالتالي ينفون الأسباب.
ولذلك يقال للجبرية -الأشاعرة ومن نحا نحوهم- يقال لهم نُفَاة الأسباب.
وهم في الحقيقة نُفَاةُ التعليل، يقولون: أفعال الله - عز وجل - غير معللة.
فإذاً السبب لا يُنْتِجُ المُسَبَّبْ؛ ولكن يَحْدُثُ عنه المُسَبَّبْ عند الالتقاء.
وهذا القول -يعني في نفي الأسباب والتعليل- قول ابن حزم وجماعة من الذين ظاهرهم متابعة الحديث.
إذا تبين ذلك فإنَّ حقيقة السبب؛ بأنَّ الله - عز وجل - يخلق شيئاً ويأمر بشيء أمراً كونياً ويكون ذلك سبباً لأشياء كثيرة.
فمثلاً إنزال المطر من السماء، الله - عز وجل - أمَرَ بإنزاله، وفي إنزاله حِكْمَةٌ لله - عز وجل -.
وأمْرُهُ سبحانه وتعالى بأن يُنزَلَ هذا الماء على الأرض مرتبط بعلة؛ لأنَّ الأرض حياتها بالماء، وأيضاً إنزال المطر على هذه الأرض المعينة مرتبط بعلة الله - عز وجل - يعلمها وكما قال في بعض حكمته {وَلَقَدْ صَرَفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُورَا} [الفرقان:٥٠] .
إذا تبين ذلك فالماء ينتج عنه شيء آخر، الماء سَبَبْ، والله سبحانه وتعالى بَيَّنَ أنه أَنْبَتَ النبات بالماء {فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ} [النمل:٦٠] ، {فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الحَصِيدِ} [ق:٩٠] ، {فَأَخْرَجْنَا بِهِ} ، إذاً صارت كلمة {بِهِ} هذه تدل على أنَّ الإخراج بالماء، وأنَّ الماء بسببه صار الإخراج؛ يعني الماء أنتج الإخراج.
أما غير أهل السنة فماذا يقولون؟
يقولون عند التقاء الماء بالأرض حَصَلَ النبات، فيُفَسِّرُونَ حرف (بِـ) بنحو كلمة (عند) مِنَ الكلمات.
فإذاً عندهم عِنْدِيَّةْ ولذلك ينفون السبب.
يقولون: الماء لم يُنْبِتْ إلا على المَجَازْ العقلي، كما تقولُ: أَنْبَتَ الماء البقلَ والمنبِتُ هو الله - عز وجل -.
ولذلك يذكرون هذه القاعدة في كتب العقائد وفي كتب البلاغة الذي يسمونه المجاز العقلي: أنبت الربيع البقل أو نحو ذلك.
فإذاً نقول: إنَّ الله - عز وجل - من حكمته أنه خلق الأشياء وجعلها أسباباً لأشياء.
خَلَقَ ماء الرجل وجعله سبباً لحمل المرأة، خَلَقَ اللباس وجعله سببا للدفء، خَلَقَ السّرابيل لِعِلَّة، خَلَقَ الأشياء لعلة، وهكذا فما من شيء تراه إلا وله حكمة، حتى في المُؤْذِيَات، حتى الهوام، حتى الحشرات، حتى ما تتأذى منه وتظن أنَّهُ لا حكمة فيه، فإنَّ فيه حكمة بالغة لله - جل جلاله - وتقدست أسماؤه، هذه كلها أسباب والأسباب تُحْدِثْ المسببات.
إذاً حقيقة قول نفاة الأسباب أنهم يقولون: إنَّ السبب يُحدِثْ المُسَبَبْ عند الالتقاء؛ لكن لا يُنْتِجُهُ بالإقتِضَاءْ، يعني لا ينتجه بما جعل الله - عز وجل - فيه من التأثير.