يريد بهذا الكلام أنَّهُ لمَّا أثْبَتَ عرش الرحمن - عز وجل - وأثْبَتَ الكرسي على ما جاء في النصوص وما في ذلك من الاستواء على العرش كما يليق بجلال الله - عز وجل -، بَيَّنَ أنَّ خلق العرش واستواء الرب - عز وجل - على العرش كما يليق بجلاله وعظمته ليس لحاجَةٍ من الله - عز وجل - لما خَلَقْ للعرش، ولكن الله - عز وجل - هو الغني سبحانه وتعالى، وهو مستغنٍ عن جميع المخلوقات؛ بل العرش وما دونه مفتقر إلى الرب - عز وجل -، إذْ ربُّنا - عز وجل - به تقوم الأشياء، فلا أحد يقوم ولا شيء يقوم إلاّ بالربّ - جل جلاله -، والعرش من ذلك؛ فإنه مفتقر في قيامه وفي استمراريته وفيما عليه شأنه مفتقر إلى الربّ - جل جلاله -، فالله سبحانه هو الذي يحفظه، وهو الذي بقدرته يحمله - عز وجل -، إلى غير ذلك. فإذاً استواء الربّ - جل جلاله - على العرش ليس استواءً كما يظنه الجهلة وأهل البدع لمَّا نفوا الاستواء أنَّ ذلك يقتضي الحاجة إليه، لا وكلاّ؛ بل هذا فِعْلْ فَعَلَهُ الله - عز وجل - وصِفَةٌ اتصف الله - عز وجل - بها، والله سبحانه يتّصف بما يشاء - جل جلاله - وتقدّست أسماؤه، والعرش شَرُفَ وعَظُم لأنَّ الله - عز وجل - جعله مكاناً لاستوائه عليه سبحانه وتعالى. لأجل مخالفة المخالفين ولأجل الرد على جَهَالَةْ الجاهلين قال الطحاوي هنا (وَهُوَ مُسْتَغْنٍ عَنِ الْعَرْشِ) . يعني أنَّ الله - عز وجل - موصوف بالغِنَى المُطْلَقْ من كل وجه، كما وصف بذلك نفسه في القرآن، وهو مستغن عن أعظم المخلوقات وأعلى المخلوقات وفوق المخلوقات وهو العرش، فاستغناؤه - عز وجل - عما دون ذلك الخلق العظيم وهو العرش لاشك أنه من باب أولى.
قال رحمه الله هنا في وصف الله (وَهُوَ مُسْتَغْنٍ عَنِ الْعَرْشِ وَمَا دُونَهُ) وذلك لكمال غنى الرب - عز وجل -، وكمال جلاله وكمال قدرته سبحانه وكمال قهره، ولعلو ذاته سبحانه وتعالى وأنه الحي القيوم. (القيوم) يعني أنَّ كل شيء إنَّمَا قيامه بالله - عز وجل -، فأي شيء في هذه الدنيا بل أي شيء من مخلوقات الله - عز وجل - لو تَخَلَّى ربنا - عز وجل - عنه لباد ولهلك ولما استقام له شأن. ولهذا كان من دعاء أعرف الخلق بربه وأعلم الخلق بربه صلى الله عليه وسلم أنه يقول «ولا تكلني لنفسي طرفة عين» (١) فهذا فيه التَّخَلِّي عن كل حول وقوة وعن أنْ يُوكَلَ العبد إلى نفسه طرفة عين. فإذاً كلّ الخلق قيامهم بالله - عز وجل -، وكل الخلق فقراء إلى الله - عز وجل - ومن ذلك العرش، والربّ سبحانه هو الغني الحميد المستغني عن كل ما عداه والمفتقر إليه كل شيء سبحانه وتعالى.
قال (مُحِيطٌ بِكُلِّ شَيْءٍ وَفَوْقَهُ) يعني أنَّ الربّ سبحانه وتعالى موصوف بإحاطته لكل شيء وأنَّهُ سبحانه فوق كل شيء. وهذه الإحاطة يأتي بيانها بالتفصيل، ومعناها أنّ الرب - عز وجل - محيط بصفاته بكل شيء بعظمته - عز وجل - وبقدرته وبعلمه فهو سبحانه بكل شيء محيط. قال (وَفَوْقَهُ) يعني أنَّ الله - عز وجل - موصوف بالعلو المطلق؛ علو الذات والفوقية المطلقة؛ فوقية الذات له سبحانه وكذلك علو وفوقية الصفات.
قال بعدها (وَقَدْ أَعْجَزَ عز وجل عَنِ الْإِحَاطَةِ خَلْقَهُ) يعني أنَّ الله - جل جلاله - لِعِظَمِ قدرته ولكمالِهِ في غناه لا أحد ولا شيء يحيط به كما قال - عز وجل - {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} [الأنعام:١٠٣] ، وقال - عز وجل - لموسى {لَنْ تَرَانِي وَلَكِنْ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنْ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} [الأعراف:١٤٣] . - فإحاطة الرؤية بالله - عز وجل - ممتنعة. - وإحاطة العلم بالله - عز وجل - ممتنعة. -وإحاطة القدرة بالله - عز وجل - ممتنعة. إذاً فالعباد مهما بلغ شأنهم فيما أعطاهم الله من القوة فإنهم أحقر وأضعف وأذل لله - عز وجل - من أن يحيطوا به - عز وجل - علماً أو يحيطوا به وصفاً أو يحيطوا به - عز وجل - قدرَةً إلى آخر ذلك؛ بل هو سبحانه المتصف بصفات الكمال. وهذا من الطحاوي رحمه الله تَقْرِيرٌ لعقيدةٍ عظيمةٍ من عقائد أهل السنة والجماعة مُخَالَفَةً للمعتزلة والخوارج والرافضة والأشاعرة وطوائف كثيرة من الصفاتية ومن غيرهم. وفي هذه الجملة مسائل لبسط الكلام عليها.