[المسألة الثانية] :
العلو والفوقية لله - عز وجل - ثابت بدليل القرآن والسنة والعقل والفطرة.
بل قال بعض العلماء: إنَّ في القرآن والسنة ألف دليل لإثبات علو الله - عز وجل - بذاته وفوقيته بذاته على خلقه.
وهذا يعني أنَّ أمر العلو ومسألة العلو والفوقية من المسائل المتواترة العظيمة التي دلالتها صريحة؛ بل دلالتها نصية فدلالتها إذاً قطعية.
ولهذا دخل عدد من أهل العلم؛ بل صَرَّحَ عدد من أهل العلم بتكفير من أنكر علو الله - عز وجل - على خلقه لأجل عِظَمْ الأدلة في هذا كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
الأدلة التي دَلَّتْ على علو الله - عز وجل - على خلقه وعلى أنه سبحانه فوقهم بذاته وصفاته كثيرة جداً.
لهذا ابن القيم جعلها أنواع لأجل كثرتها، جعلها ثمانية عشرة نوعا كل نوع تحته جملة من الأدلة في الكتاب والسنة، ونذكر بعضا منها، وترجعون إلى الباقي:
١ - أنَّ الله - عز وجل - صرَّحَ سبحانه ونص على أنه فوق عباده في قوله في سورة الأنعام {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [الأنعام:١٨] ، {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} .
٢ - أنه جاء التصريح بـ {مِنْ} قبل الفوقية في قوله سبحانه في سورة النحل {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [النحل:٥٠] .
ومن مقتضيات اللغة أنَّ مجيء (من) قبل الظرف (فوق) تدل بظهور على أنَّ الفوقية فوقية ذات؛ لأنَّ فوقية الصفة أو القَهْرْ أو القَدْرْ لا يُؤتى فيها بـ (من) ، فلا يُقَال الذهب من فوق الحديد ويُعنى به صفاته، أو الملك من فوق الرعية ويعنى بها من الصفات.
إذا أُتيَ بـ (من) في اللغة قبل الظرف (فوق) فإنها تدل على فوقية المكان أو فوقية الذات لله - عز وجل -.
يعني فوقية الذات لأي شيء، وفي الآية فوقية الذات لله - عز وجل -.
فإذاً قوله سبحانه لما وصف الملائكة بأنَّهُم [ ... ] إلى السماء وأنهم يسبحون قال {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} يعني الذي هو فوقهم بذاته - جل جلاله - وتقدست أسماؤه.
٣ - أنه سبحانه ذَكَرَ أنَّ الملائكة تعرج إليه فقال سبحانه {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج:٤] ، عروج الملائكة يعني صعودها، عروج الملائكة يعني ارتقاءها إلى أعلى وإلى فوق، وهذا يدل على فوقية الذات لله - عز وجل -.
٤ - أنه سبحانه ذَكَرَ ونصَّ على أنَّ العمل الصالح يصعد إلى الرب - عز وجل -، والأعمال الصالحة تُرْفَعُ إليه سبحانه وتعالى، كما جاء في قوله تعالى في سورة فاطر {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر:١٠] ، فقوله {إِلَيْهِ يَصْعَدُ} يعني لا إلى غيره لأنه سبحانه هو المتفرد بعلو الذات على خلقه جميعاً.
٥ -أنَّ الله سبحانه ذَكَرَ أنَّهُ اخْتَصَّ بعض عباده بأن جعلهم عنده، ومن ذلك الملائكة، فالملائكة في السماء؛ ولكن هم متنوعون أيضاً في سُكناهم للسماء، فجعل - عز وجل - بعضهم مختص بأنه عنده سبحانه، وهذه العندية هي عندية علو وفوقية، كما في قوله سبحانه {وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (١٩) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء:١٩-٢٠] ، ونحو ذلك من الآيات، فالعندية -عندية الملائكة- يعني كون الملائكة عند الله {الذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ} يقتضي أنه سبحانه شرَّفَهُمْ وخَصَّهُمْ بشيء وهو أنهم عنده؛ يعني في عُلاهُ - عز وجل -.
وكذلك ما وصف الله - عز وجل - به الشهداء في قوله {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران:١٦٩] {أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ} هم بين الخلق جَسَدَاً ولكنهم عند ربهم روحاً يعني في العلا تكريماً لهم وتعظيماً لأجرهم وثوابهم.
٦ - ما ذكر الله - عز وجل - من تنزيله للكتاب من عنده، كقوله {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنْ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [الزمر:١] وكقوله {تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنْ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [غافر:٢] ، وكقوله {تَنزِيلٌ مِنْ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [فصلت:٢] ، وكقوله سبحانه {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} [النحل:١٠٢] ، {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ} [الشعراء:١٩٣] ، ونحو ذلك من الآيات.
وهذه كلها ذكرها ابن القيم تحفظونها لأنها نافعة في الحجاج ومجادلة من ينكرون علو الله - عز وجل -.
والأنواع كثيرة يمكن أن تطلبوها، وفيها أقوى دلالة وأوضح برهان على أنَّ الله سبحانه هو العالي فوق خلقه بذاته - عز وجل -.