هذه الجملة فيها النهي عن أنْ يتعدى المؤمن ما عُلِّمَهُ في الكتاب والسنة وأن يقتصر عليه. وذلك لأنَّ ما لم يُعَلَّم إياه من أمر التوحيد والإيمان والعقيدة فإنَّ الخير فيما عُلِّمناهُ، والتعدي على ما عُلِّمناه فيه خوض فيما لم يأتِ لنا به علم وهذا منهيّ عنه، كما قال - عز وجل - {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء:٣٦] ، فشيء في أمور الغيبيات لم يرد النص في الكتاب ولا في السنة فإنه يُسْكَتُ عنه ولا يُتَكَلَمُ فيه، وإذا كان معارضاً لما في الكتاب والسنة فيُرَدْ؛ لأنَّ الحق فيما قال ربنا - عز وجل - وقاله رسوله صلى الله عليه وسلم.
فقوله (فَمَنْ رَامَ عِلْمَ مَا حُظِرَ عَنْهُ عِلْمُهُ) يعني ما لم يأتِهِ به علم، رام شيئاً، أراد علماً لم يأتنا فيه علم وهو الدليل البرهان من الكتاب والسنة.
(وَلَمْ يَقْنَعْ بِالتَّسْلِيمِ فَهْمُهُ) كما ذكرنا لكم أنَّ ثمة أشياء قد تشتبه فواجب على المسلم أن يُسَلِّم بما جاء في النص من الأمور الغيبية، فإذا لم يقنع بالتسليم الفهم، ورام شيئاً محظوراً عنه ودخل في أقوال وعقليات وآراء فإن هذا الذي فَعَل يَحْجِبُهُ عن خالص التوحيد.
قال (حَجَبَهُ مَرَامُهُ) وهو طلبه لشيء لم يرد فيه العلم.
(عَنْ خَالِصِ التَّوْحِيدِ) . (خَالِصِ التَّوْحِيدِ) يعني كامل التوحيد، التوحيد الذي لا شيء يُكَدِّره. خالص: الشيء الخالص الذي لا شيء يكدّره، صافي خالص وسامي. فمن بحث في أشياء لم يأت بها العلم الشرعي لم يأت بها الدليل فإنَّ توحيده ناقص، وهذا يدلّ على أنَّ من خاض في المُشَكِّكاتْ واستمر معها مُتَشكّكاً ولم يُسَلِّم فإنه لابدّ وأن يُحجب عن خالص التوحيد. ولهذا قال شيخ الإسلام رحمه الله في تائيته القدرية: وأصلُ ضلالِ الخلْقِ مِنْ كُلِّ فِرقَةِ ****** هو الخوضُ في فعْلِ الإلهِ بعلَّةِ فإنَّهمُ لم يَفْهَمُوا حِكْمَةً لَهُ ****** فصاروا على نَوْعٍ مِنَ الجاهليَّةِ خاضوا في شيء لم يأت لهم به خبر ولم يأت لهم به دليل، فخاضوا في أفعال الله - عز وجل -. فكل من خاض في أشياء غيبية لم يأت بها الدليل فإنه يُحْجَبُ عن خالص التوحيد. ولهذا واجب في مسائل الإيمان أن لا يُتَجَاوَزْ فيها ما جاء في الأدلة، واجب في مسائل القدر أن لا يُتَجَاوَزْ فيها ما جاء في الكتاب والسنة، ولهذا جاء في الحديث الصحيح «إذا ذكر القدر فأمسكوا، وإذا ذكرت النجوم فأمسكوا، وإذا ذكر أصحابي فأمسكوا» (١) يعني أمسكوا عن أن تخوضوا في هذه الأشياء في غير ما عُلِّمْتُمْ. فمن خاض في شيء لم يُعَلَّمْهُ فإنه يُحْجَبُ عن خالص التوحيد؛ لأنه قد يقوده ذلك إلى الشك وعدم الاستسلام.
قال (وَصَافِي الْمَعْرِفَةِ) المعرفة في كلام أهل العلم تتناوب مع العلم. إذا قيل المعرفة فيراد بها العلم، ولهذا قَسَمَ طائفة من العلماء التوحيد إلى قسمين: - توحيد المعرفة والإثبات. - توحيد القصد والطلب. وتوحيد المعرفة والإثبات يعني توحيد العلم؛ يعني التوحيد العلمي الخبري، والتوحيد الطلبي الإرادي. والمعرفة إذا كانت بذلك بهذا المعنى فلا بأس بذلك. ونبهتكم مرارا على أنَّ كلمة المعرفة جاءت بمعنى العلم في السنة كما روى أصحاب الصحيح أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ «إنك تأتي قوما أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فإن هم عرفوا ذلك» (٢) يعني علموا ذلك وأقرّوا به ونحو ذلك، هذا من المعنى الجائز الذي ورد. وأكثر ما جاء في القرآن بل كل ما جاء في القرآن أنَّ المعرفة أضيفت لمن يُذَمْ وليس لمن يُمْدَحْ، كما قال - عز وجل - {يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا} [النحل:٨٣] ، وكما قال {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [الأنعام:٢٠] ، ونحو ذلك من الآيات، وهذا سبق بيانه. فإذاً قوله (وَصَافِي الْمَعْرِفَةِ) يعني وصافي العلم، فالعلم الصافي لا يؤتاه إلا من سَلَّم. وهذا أمر عجيب لأنَّ العلم الشرعي وخاصَّة التوحيد يؤتاه العبد بشيئين سلوكيين من أعمال القلوب: ١ - الأمر الأول: أنْ لا يعترض، فإذا اعترض حُجِبْ. ٢ - والأمر الثاني: أن يعمل، فإذا تعلم الإخلاص عَمِلَ به، تُفتح له من أبواب الإيمان والعلم بالإيمان والإخلاص ما لا يُفتح للآخرين؛ بل المرء نفسه يجد في حاله في تارات من حياته أو تارات من طلبه للعلم مرةً يُفْتَح له لإخلاص كان عنده وصدق وعمل صالح كان عنده، ومرات يُحْجَبْ عنه كثير من أنواع الإخلاص وأنواع العلوم القلبية والأعمال القلبية. فهذان الأمران مهمان: - الأول عدم الاعتراض. - والثاني العمل بمفردات التوحيد ومفردات الإخلاص. فصفاء العلم يكون بهذين الشيئين. حتى الأمور العملية -أمور الصلاة، الأحكام الفقهية من العبادات في المعاملات وغير ذلك-، إذا علمت شيئا فَسَلَّمْتَ للدليل، وسَلَّمْتَ لكلام أهل العلم، فعَمِلْتَ بذلك أورثك الله - عز وجل - ثباتاً في هذا العلم الذي عَلِمْتَهُ وفهماً لِمَا لم تعلم، كما قال بعض السلف (من عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم) (٣) وقد قال - عز وجل - في سورة النساء {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} [النساء:٦٦] . {لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} إذا فعل المرء ما يُوعَظ به؛ يعني في القرآن والسنة خير أن تعمل ما وُعِظْتَ به وأشد تثبيتا للإيمان وللعلم. ولهذا عدم الاعتراض في أمور العقائد والتوحيد على النصوص يُعْطَى العبد به نور ويَخْلُصْ توحيده وتصفى معرفته وعلمه ويَصِحَّ إيمانه كما ذكر رحمه الله. وكذلك في الأمور العملية إذا عَمِلَ بعد العلم وسَلَّم ولم يعترض فإنه يصفى من جهة العمل ويكون إيمانه وعمله داعياً له إلى العلم وإلى الازدياد من العمل. نسأل الله - عز وجل - أن يجعلنا وإياكم من أهل صحة الإيمان وصفاء العلم.
قال (فَيَتَذَبْذَبُ بَيْنَ الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ، وَالتَّصْدِيقِ وَالتَّكْذِيبِ، وَالْإِقْرَارِ وَالْإِنْكَارِ، مُوَسْوَسًا تَائِهًا، زَائِغًا شَاكًّا، لَا مُؤْمِنًا مُصَدِّقًا، وَلَا جَاحِدًا مُكَذِّبًا.) وهذا كثير في الذين عرضت لهم الشكوك وساروا معها ولم يقنعوا بما دلهم عليه الكتاب والسنة. فإنهم يبقون متشككين حائرين ليسوا مؤمنين وليسوا كفاراً، تارة يَنْزَعُ إلى هؤلاء بِشَكِّهِ، وتارَةً يكون مع أهل الإيمان بتصديقه، وتارَةً يعرض له التكذيب، وتارَةً يعرض له التصديق، تارَةً يعرض له الإقرار وتارَةً يعرض له الإنكار، فليس في قلبه يقين للحق، ليس في قلبه علم لا شك فيه؛ بل هو متردد بل هو ذو ريب وذو شك، والله - عز وجل - وصف المنافقين بأنهم لا يزالون في ريبهم فقال سبحانه {فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} [التوبة:٤٥] . * ننبه إلى أنَّ قوله (فَيَتَذَبْذَبُ بَيْنَ الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ، وَالتَّصْدِيقِ.... مُوَسْوَسًا تَائِهًا) ونحو ذلك، الوسوسة هذه لها حالات إذا عَرَضَتْ فلم يتكلم بها العبد، وحَكَّمَ العلم على قلبه فإنَّ هذه الوسوسة دليل الإيمان، كما قال صلى الله عليه وسلم لمَّا سُئِلَ فقيل له (إن أحدنا ليجد في نفسه أشياء لا يتجاسر أن يتكلم بها) قال «أو قد وجدتم ذلك، ذلك صريح الإيمان» (٤) يعني أنَّ الشيطان إذا لم يتمكن من العبد إلا أَنْ طَرَحَ في قلبه بعض الوساوس فهذا يدل على أنَّه لم يستطع عليه؛ بل هو مؤمن وهذا دليل صريح الإيمان الذي في القلب. لكن هذا في حق من؟ من تعْرِضُ له هذه الأشياء ثم ينفيها بالعلم، فإنَّ كل أحد لا يسلم من هذه العوارض التي تأتي والشكوك أو الوساوس التي يُلقيها الشيطان لكن صاحب العلم ينفيها ولا يستأنس لها، وأما الذي يستأنس لها ويسير معها ويبحث متشككاً حائراً كما ذكرنا ولم يستسلم فإنَّ هذا هو الذي وُصِفَ هنا بقوله (فَيَتَذَبْذَبُ بَيْنَ الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ) إلى آخره. هذه المسائل التي سمعتموها وما سيأتي تأصيلية، في مسائل التلقي والموقف من العقل، والاستسلام للنص، ووحدة مصدر التلقي، وأنَّ العقيدة مأخوذة بالاستسلام، ونحو ذلك والمباحث العقدية يأتي بعد ذلك بقية ما أورده المصنف.
ثم قال رحمه الله (وَلَا يَصِحُّ الْإِيمَانُ بِالرُّؤْيَةِ لِأَهْلِ دَارِ السَّلَامِ لِمَنِ اعْتَبَرَهَا مِنْهُمْ بِوَهْمٍ، أَوْ تَأَوَّلَهَا بِفَهْمٍ) هذا سبق أن ذكرنا الرؤية رؤية الرب - عز وجل - والمباحث فيها والرد على أهل الزيغ فيها وتقرير مذهب أهل السنة والجماعة أهل الحديث في ذلك، سبق أن ذكرنا ذلك بتفصيل.