للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

[المسألة الأولى] :

(أهل الكبائر) يُسَمَّى من ارتكب الكبيرة أنه من أهل الكبائر، أو يُوصَفُ أنه من أهل الكبائر إذا اجتمع فيه وصفان:

- الأول: العلم.

- والثاني: عدم التوبة.

فإذا عَلِمْ أنَّ هذا الفعل معصية واقتَحَمَهُ وكان مَنْصُوصَاً عليه أنَّهُ من الكبائر فيكون من أهل الكبائر.

والثاني أن لا يكونَ أَحْدَثَ توبة فإذا أحدث توبة فلا يُوصَفُ أنه من أهل الكبائر.

والكبائر جمع كبيرة، والكبيرة اختلف فيها العلماء اختلافاً كبيراً، على أقوال شتى -ذكر لك عددا من الأقوال الشارح ابن أبي العز-:

- فمن أهل العلم من قال هي سبع مُقْتَصِراً على حديث «اجتنبوا السبع الموبقات» (١) .

- ومنهم من قال هي سبعون -يعني من جهة العدد-.

- ومنهم من قال كل معصية كبيرة.

وهذه الأقوال ليست جيدة؛ بل الجميع غلط، فلا يُحَدُّ العدد بِحَدْ لعدم النص عليه، وليست كل معصية كبيرة للفَرْقِ في القرآن -كما سيأتي-، وكذلك ليست هي سبعين؛ يعني لم يثبت في العدد ولا في أنَّ كل معصية كبيرة شيء يمكن أن يُستَدَلَ به على ذلك.

ولهذا صار أجود الأقوال في الكبيرة قولان:

١- القول الأول: أنّ الكبيرة ما فيه حَدٌ في الدنيا أو عيدٌ بنار أو غضب.

٢- والقول الثاني: أنّ الكبيرة هي المعصية التي يُؤَثِّرُ فِعْلُهَا في أحد مقاصد الشّرعْ أو كُلِّيَاتِهِ الخمس، مقاصد الشّرع العظيمة أو في أحد كلياته الخمس.

والقول الأول هو المعروف عن الإمام أحمد وعددٍ من أهل العلم من أهل السنة.

والقول الثاني اختاره جمع من العلماء كالفقيه العز بن عبد السلام في قواعده، وقوّاهُ جمعٌ ممن تبعه في ذلك، وذكره النووي أيضاً في شرحه على مسلم من الأقوال القوية في المسألة.

هذان القولان قريبان.

والقول الأول عُرِّفَتْ فيه الكبائر بـ (ما فيه حد في الدنيا أو وعيد) .

(حد في الدنيا) يعني ما رُتِّبَ عليه حَدْ مَحْدُودْ، مثل السرقة فيها حد كبيرة، الزنا فيه حد كبيرة، شرب الخمر فيه حد كبيرة، السحر فيه حد كبيرة، الشرك بالله - عز وجل - هو رأس الكبائر، وكُلُّ ما رُتِّبَ فيه حد، فهذا ضابط لمعرفة أنه كبيرة.

(أو وعيد) ما تُوُعِّدَ عليه بالنار، فِعْلٌ تَوَعَدَ الله - عز وجل - عليه بالنار، جاء في الكتاب أو السنة التَوَعُّدْ عليه بالنار، قتل النفس هذا فيه حد وأيضاً تَوَعُّدْ بالنار، والخيانة، وأكل المال بالباطل أكل مال اليتامى {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء:١٠] ، وأشباه ذلك، فما كان فيه حد أو كان توعد بنار فهذا ظاهر في أنه كبيرة.

ابن تيمية أضاف (ما نُفِيَ فيه الإيمان -لا يؤمن-، أو جاء فيه -ليس منا-) :

ما نُفِيَ فيه الإيمان (لا يؤمن) : يعني أضاف على التعريف الأول ما نُفِيَ فيه الإيمان «لا يؤمن من لا يأمن جاره بوائقه» (٢) يقول: عَدَمُ أَمْنِ الجار من البوائق والاعتداء عليه هذا صار من الكبائر؛ لأنه نَفَى فيه الإيمان، ونَفْيُ الإيمان لا يُطْلَقُ عند ابن تيمية إلا على نَفْيِ الكمال الواجب، ولا يُنْقِصْ الكمال الواجب عنده إلا ما كان كبيرة.

أو جاء فيه (ليس منا) : ليس منا من فَعَلَ كذا، ليس منا من غش، «من غشنا فليس منا» (٣) ، «ليس منا من لطم الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية» (٤) هذا يدُلْ على أنَّ الفعل كبيرة عند ابن تيمية؛ لأنَّ النفي هذا (ليس منا) يقول يتوجَهُ إلى أنَّهُ ليس من أهل الإيمان وهذا النفي يرجع إلى الأول في أنه فَعَلَ كبيرة.

وذكرت لكم مرة أو أكثر أنَّ ابن عبد القوي في منظومته في الآداب الطويلة ذكر التعريف بقوله:

فما فيه حد في الدُّنى أو تَوَعُدٌ ****** بأخرى فَسَمْ كبرى على نَصِّ أحمدِ

وزاد حفيد المجد أو جا ****** وعيدُه بنفي لإيمان وطرد لمُبْعَدِ

يعني جَمَعَ قول الإمام أحمد واستدراك ابن تيمية عليه.

والتحقيق أن يُقال هذه الأقوال أعني هذين القولين قريبة، وهي صواب، وما كان فيه قَدْحٌ في مَقْصَدْ من مقاصد الشارع أو ضروري من الضروريات الخمس وصار إِحْدَاثُهُ أو فِعْلُهُ مَضَرَّتُهُ وإِفْسَادُهُ يرجع إلى هذه فهو في الحقيقة يكون في الشرع مُرَتَّبَاً عليه حد أو يكون في الشرع مُرَتَّبَاً عليه لعن أو طرد أو وعيد.

يدخل في التعريف الأول -يعني على كلام ابن تيمية- اللعن، كل ما فيه لعن أيضاً يدخل في حد الكبيرة -سبق أن ذكرنا لكم شيئا من ذلك-.


(١) سبق ذكره (٢٦٤)
(٢) سبق ذكره (٢٦٤)
(٣) مسلم (٢٩٤) / ابن ماجه (٢٢٢٤)
(٤) البخاري (١٢٩٤)

<<  <   >  >>